والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل: ولا يصح من أحد منهم خلاف ذلك البتة خصوصاً الإمام أحمد ولا خوض في معانيها ولا ضرب مثل من الأمثال لها: وإن كان بعض من كان قريباً من زمن الإمام أحمد فيهم من فعل شيئاً من ذلك اتباعاً لطريقة مقاتل فلا يقتدى به في ذلك إنما الإقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك. ومالك. والثوري والأوزاعي. والشافعي. وأحمد. واسحق. وأبي عبيد. ونحوهم.
وكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين فضلا عن كلام الفلاسفة: ولم يدخل ذلك في كلام من سلم من قدح وجرح وقد قال أبوزرعة الرازي كل من كان عنده علم فلم يصن علمه واحتاج في نشره إلى شيء من الكلام فلستم منه.
ومن ذلك أعني محدثات العلوم ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها. وسواء أخالفت السنن أم وافقتها طرداً لتلك القواعد المقررة وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق: وبالغوا في ذمه وإنكاره.
فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولا به عند الصحابة: ومن بعدهم: أو عند طائفة منهم فأما ما اتفق على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به قال عمر بن عبد العزيز خذوا من الرأي ما يوافق من كان قبلكم فإنهم كانوا أعلم منكم.
فأما ما خالف عمل أهل المدينة من الحديث فهذا كان مالك يرى الأخذ بعمل أهل المدينة الأكثرون أخذوا بالحديث.
ومما أنكره أئمة السلف الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام: وإنما أحدث ذلك بعدهم كما أحدثه فقهاء العراقين في مسائل الخلاف بين الشافعية والحنفية وصنفوا كتب الخلاف ووسعوا البحث والجدال فيها وكل ذلك محدث ل أصل له وصار ذلك علمهم حتى شغلهم ذلك عن العلم النافع.
وقد أنكر ذلك السلف وورد في الحديث المرفوع في السنن) ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل ثم قرأ (ما ضَرَبوهُ لَكَ إِلّا جَدَلاً بَل هُم قَومٌ خَصِمون) (وقال بعض السلف إذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل.
وقال مالك أدركت أهل هذه البلدة وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي فيه الناس اليوم: يريد المسائل وكان يعيب كثرة الكلام والفتيا ويقول يتكلم أحدهم كأنه جمل مغتلم يقول هو كذا هو كذا بهدر في كلامه وكان يكره الجواب في كثرة المسائل ويقول قال اللَهُ عز وجل (وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي) فلم يأته في ذلك جواب. وقيل له الرجل يكون عالماً بالسنن يجادل عنها قال لا ولكن يخبر بالسنة فان قبل منه وإلا سكت: وقال المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم وقال المراء في العلم يُقسي القلب ويورث الضعن: وكان يقول في المسائل التي يسئل عنها كثيراً لا أدري: وكان الإمام أحمد يسلك سبيله في ذلك.
وقد ورد النهي عن كثرة المسائل وعن أغلوطات المسائل وعن المسائل قبل وقوع الحوادث وفي ذلك ما يطول ذكره: ومع هذا ففي كلام السلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق التنبيه على مأخذ الفقه ومدارك الأحكام بكلام وجيز مختصر يفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب: وفي كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه فما سكت من سكت من كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة جهلا ولا عجزاً ولكن سكتوا عن علم وخشية للَّه. وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم لاختصاصه بعلم دونهم ولكن حباً للكلام وقلة ورع كما قال الحسن وسمع قوما يتجادلون هؤلاء قوم ملوا العبادة وخف عليهم القول وقل ورعهم فتكلموا.