وكذلك التوسع في علم الأنساب هو مما لا يحتاج إليه: وقد سبق عن عمر وغيره النهي عنه مع أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا يعرفونه ويعتنون به. وكذلك التوسع في علم العربية لغة ونحواً هو مما يشغل عن العلم الأهم والوقوف معه يحرم علماً نافعاً. وقد كره القاسم بن مخيمرة علم النحو وقال أوله شغل وآخره بغي. وأراد به التوسع فيه ولذلك كره أحمد التوسع في معرفة اللغة وغريبها وأنكر على أبي عبيدة توسعه في ذلك وقال هو يشغل عما هو أهم منه. ولهذا يقال أن العربية في الكلام كالملح في الطعام يعني أنه يؤخذ منها ما يصلح الكلام كما يؤخذ من الملح ما يصلح الطعام وما زاد على ذلك فإنه يفسده وكذلك علم الحساب يحتاج منه إلى ما يعرف به حساب ما يقع من قسمة الفرائض والوصايا. والأموال التي تقسم بين المستحقين لها والزائد على ذلك مما لا ينتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان وصقالها لا حاجة إليه ويشغل عما هو أهم منه وأما ما أحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علوما وظنوا أن من لم يكن عالماً بها فهو جاهل أو ضال فكلها بدعة وهي من محدثات الأمور المنهي عنها. فمن ذلك ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر وضرب الأمثال للَّه. وقد ورد النهي عن الخوض في القدر وفي صحيحي ابن حبان والحاكم عن ابن عباس مرفوعاً) لا يزال أمر هذه الأمة موافيا ومقاربا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر (وقد روي موقوفا ورجح بعضهم وقفه وخرج البيهقي من حديث ابن مسعود مرفوعاً) إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا (وقد روي من وجوه متعددة في أسانيدها مقال وروي عن ابن عباس أنه قال لميمون بن مهران إياك والنظر في النجوم فإنها تدعو إلى الكهانة والقدر فإنه يدعو إلى الزندقة وإياك وشتم أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فَيُكِبَّكَ اللَه في النار على وجهك وخرجه أبو نعيم مرفوعاً ولا يصح رفعه والنهي عن الخوض في القدر يكون على وجوه منها ضرب كتاب اللَه بعضه ببعض فينزع المثبت للقدر بآية والنافي له بأخرى. ويقع التجادل في ذلك. وهذا قد روي أنه وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من ذلك ونهى عنه وهذا من جملة الاختلاف في القرآن والمراء فيه وقد نهي عن ذلك.
ومنها الخوض في القدر إثباتاً ونفياً بالأقيسة العقلية: كقول القدرية لو قدر وقضى ثم عذب كان ظالماً. وقول من خالفهم إن اللَه جبر العباد على أفعالهم ونحو ذلك.
ومنها الخوض في سر القدر. وقد ورد النهي عنه عن علي وغيره من السلف فإن العباد لا يطلعون على حقيقة ذلك. ومن ذلك أعني محدثات الأمور ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول وهو أشد خطراً من الكلام في القدر لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله وهذا كلام في ذاته وصفاته.
وينقسم هؤلاء إلى قسمين أحدهما من نفى كثيراً مما ورد به الكتاب والسنة من ذلك لاستلزامه عنده للتشبيه بالمخلوقين كقول المعتزلة لو رؤي لكان جسما لأنه لا يرى إلا في جهة: وقولهم لو كان له كلام يسمع لكان جسما ووافقهم من نفى الاستواء فنفوه لهذه الشبهة: وهذا طريق المعتزلة والجهمية وقد اتفق السلف على تبديعهم وتضليلهم وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين.
والثاني من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم يرد بها الأثر ورد على أولئك مقالتهم كما هي طريقة مقاتل بن سليمان ومن تابعه كنوح بن أبي مريم وتابعهم طائفة من المحدثين قديماً وحديثاً. وهو أيضاً مسلك الكرامية فمنهم من أثبت لإثبات هذه الصفات الجسم إما لفظا وإما معنى. ومنهم من أثبت للَّه صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة وغير ذلك مما هي عنده لازم الصفات الثابتة.
وقد أنكر السلف على مقاتل قوله في رده على جهم بأدلة العقل وبالغوا في الطعن عليه. ومنهم من استحل قتله، منهم مكي بن إبراهيم شيخ البخاري وغيره.