وقال مهدي بن ميمون سمعت محمد بن سيرين وما رآه رجل ففطن له فقال إني أعلم ما يريد إني لو أردت أن أماريك كنت عالماً بأبواب المراء: وفي رواية قال أنا أعلم بالمراء منك ولكني لا أماريك وقال إبراهيم النخعي ما خاصمت قط وقال عبد الكريم الحوري ما خاصم ورع قط وقال جعفر بن محمد إياكم والخصومات في الدين فإنها تشغل القلب. وتورث النفاق.

وكان عمر بن عبد العزيز يقول إذا سمعت المراء فاقصر وقال من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر الثقل وقال أن السابقين عن علم وقفوا وببصرنا قد كفوا وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا وكلام السلف في هذا المعنى كثير جداً.

وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك. وهذا جهل محض. وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا. كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة والصحابة أعلم منهم وكذلك تابعوا التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين والتابعون أعلم منهم. فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.

وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً ولهذا ورد النهي) عن كثرة الكلام والتوسع في القيل والقال (وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم) أن اللَه لم يبعث نبيا إلا مبلغاً وأن تشقيق الكلام من الشيطان (يعني أن النبي إنما يتكلم بما يحصل به البلاغ. وأما كثرة القول وتشقيق الكلام فإنه مذموم. وكانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم قصداً. وكان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه) وقال أن من البيان سحراً (وإنما قاله في ذم ذلك لا مدحاً له كما ظن ذلك من ظنه ومن تأمل سياق ألفاظ الحديث قطع بذلك وفي الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً) أن اللَه ليبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها (وفي المعنى أحاديث كثيرة مرفوعة وموقوفة على عمر وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم من الصحابة فيجب أن يعتقد أنه ليس كل من كثر بسطة للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك.

وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين انه أعلم ممن تقدم. فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله. ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين. وهذا يلزم منه ما قبله لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولا ممن كان قبلهم فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله كان أعلم ممن كان أقل منهم قولا بطريق الأولى. كالثوري والأوزاعي والليث. وابن المبارك. وطبقتهم. وممن قبلهم من التابعين والصحابة أيضاً.

فإن هؤلاء كلهم أقل كلاماً ممن جاء بعدهم وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم ولا حول ولا قوة إلا باللَه ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة أنهم أبر الأمة قلوباً. وأعمقها علوماً. وأقلها تكلفاً. وروي نحوه عن ابن عمر أيضاً. وفي هذا إشارة إلى أن من بعدهم أقل علوماً وأكثر تكلفاً.

وقال ابن مسعوداً أيضاً إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح ومن كان بالعكس فهو مذموم. وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن بالإيمان والفقه. وأهل اليمن أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك. وهذا هو الفقه والعلم النافع فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015