وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ الْمَرْمُوزُ لَهُ بِقَوْلِهِ (حك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) هُوَ سَعِيدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيِّ الْخُدْرِيِّ كَانَ مِنْ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ الْعُلَمَاءِ الْفُضَلَاءِ وَأَوَّلِ مُشَاهَدِهِ الْخَنْدَقِ وَغَزَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَرَوَى أَلْفًا وَمِائَةً وَسَبْعِينَ حَدِيثًا (أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا» .
قِيلَ الطَّيِّبُ هُوَ الْحَلَالُ وَقِيلَ أَخَصُّ مِنْهُ إذْ الْحَلَالُ يَصْدُقُ عَلَى مَا فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ دُونَ الطَّيِّبِ وَمَثَّلَ بِأَنَّ الْكَسْبَ الَّذِي أَخَّرَ فِيهِ الصَّلَاةَ أَوْ تَرَكَ الْجَمَاعَةَ أَوْ الزَّرْعَ الَّذِي حَمَلَ الْبَقَرُ فِيهِ فَوْقَ طَاقَتِهِ وَكَذَا مُطْلَقُ تَحْمِيلِ الدَّابَّةِ أَوْ الدَّيْنِ الَّذِي أَخَّرَ أَدَاءَهُ عَنْ وَقْتِهِ سِيَّمَا بَعْدَ طَلَبِ دَائِنِهِ حَلَالٌ لَيْسَ بِطَيِّبٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
«عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ أَوْسٍ أَنَّهَا بَعَثَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَدَحِ لَبَنٍ عِنْدَ فِطْرِهِ فَرَدَّ عَلَيْهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَنَّى لَك هَذَا قَالَتْ مِنْ شَاةٍ لِي قَالَ أَنَّى لَك الشَّاةُ قَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْ مَالِي فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرَتْ الرُّسُلُ أَنْ لَا تَأْكُلَ إلَّا طَيِّبًا وَلَا تَعْمَلَ إلَّا صَالِحًا» .
«وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ» أَيْ جَعَلَ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ ظَرْفًا مُسْتَوْعَبًا لِعَمَلِهِ فَلَا يَخْرُجُ دَقِيقَةٌ مِنْ عَمَلِهِ عَنْ السُّنَّةِ بِلَا ابْتِدَاعٍ قَالَ الْمُنَاوِيُّ نَكَّرَهَا أَيْ السُّنَّةَ لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَفْتَقِرُ إلَى مَعْرِفَةِ سُنَّةٍ وَرَدَتْ فِيهِ «وَأَمِنَ النَّاسُ» أَيْ كُلُّ النَّاسِ وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ ذِمِّيًّا لَعَلَّ الْمُرَادَ غَيْرُ مَنْ يَلْزَمُ أَذَاهُ لِانْزِجَارِ مَعَاصِيهِ وَإِجْرَاءِ لَوَازِمِ الْبُغْضِ فِي اللَّهِ «بَوَائِقَهُ» مَفْعُولُ أَمِنَ جَمْعُ بَائِقَةٍ بِمَعْنَى الدَّاهِيَةِ الْمُرَادُ الشُّرُورُ كَالظُّلْمِ وَالْإِيذَاءِ وَالْغِشِّ.
وَعَنْ الطِّيبِيِّ تَنْكِيرُ سُنَّةٍ لِإِرَادَةِ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ بِحَسَبِ إفْرَادِهِ وَفَائِدَتُهُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ وَرَدَتْ فِيهِ سُنَّةٌ يَنْبَغِي رِعَايَتُهَا حَتَّى قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى انْتَهَى لَا يَخْفَى مَا فِي ظَاهِرِهِ مِنْ بَحْثٍ أُصُولِيٍّ وَأَيْضًا مَا فِي وَجْهِ دَلَالَةِ لَفْظِ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.
«دَخَلَ الْجَنَّةَ» دُخُولًا أَوَّلِيًّا عَادِيًّا وَتَفَضُّلِيًّا بِلَا إيجَابٍ بِلَا عَذَابٍ فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ السُّنَّةُ ظَرْفَ جَمِيعِ عَمَلِهِ كَانَ مِنْ السَّابِقِينَ فِي الطَّاعَةِ فَكَانَ مِنْ السَّابِقِينَ إلَى الْجَنَّةِ إذْ مِنْ شَأْنِهِ كَذَا لَا يَكْتَسِبُ خَطِيئَةً مُبْعِدَةً فَالتَّقْيِيدُ بِأَنْ يَقُولَ إنْ لَمْ يَقْتَرِفْ سَيِّئَةً وَلَمْ يَتْرُكْ فَرْضًا إلَّا إنْ تَابَ وَإِلَّا فَهُوَ فِي خَطَرِ الْمَشِيئَةِ ذُهُولٌ عَنْ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ وَسِرُّهُ نَعَمْ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِالسُّنَّةِ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُعَذَّبُ أَوْ يُعْفَى «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا فِي أُمَّتِك الْيَوْمَ كَثِيرٌ» لِكَوْنِهِمْ خَيْرَ الْقُرُونِ وَلِسُطُوعِ نُورِ النُّبُوَّةِ وَلِعَدَمِ حُدُوثِ الْبِدَعِ.
«قَالَ وَسَيَكُونُ فِي قَوْمٍ بَعْدِي» لَمْ يَقُلْ وَكَثِيرٌ مِنْ بَعْدِي لِقِلَّتِهِمْ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» وَأَيْضًا الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ فِي قَوْمٍ يُشْعِرُ بِذَلِكَ فَتَنْكِيرُ قَوْمٍ لِلتَّقْلِيلِ وَقِيلَ لِلتَّعْظِيمِ فَإِنْ قِيلَ الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِاكْتِفَاءِ سِينِ سَيَكُونُ أَوْ قَوْلُهُ بَعْدِي قُلْت لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِشَارَةِ إلَى اسْتِمْرَارِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا يُؤَيِّدُهُ نَصُّ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] الْآيَةَ وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ إنَّ خِطَابَهُ تَعَالَى بِمِثْلِهِ فِي الْقُرْآنِ عَامٌّ لِلْحَاضِرِينَ وَقْتَ النُّزُولِ وَلِلْغَائِبِينَ الْمَوْجُودِينَ بَعْدَهُ إمَّا بِالنَّصِّ أَوْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُقَايَسَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالتَّغْلِيبِ قِيلَ عَنْ بَعْضِ الْكُتُبِ فَلَا يَخْتَصُّ بِالْقَرْنِ الْأَوَّلِ بَلْ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ انْتَهَى.
(هق) (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ تَمَسَّكَ» أَيْ اعْتَصَمَ وَتَحَفَّظَ «بِسُنَّتِي» اعْتِقَادًا وَفِعْلًا وَقَوْلًا لَفْظُ السُّنَّةِ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ فَيَشْمَلُ الْهَدْيَ وَالرَّوَاتِبَ وَالزَّائِدَ وَالظَّاهِرُ إضَافَتُهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ إذْ لَا قَرِينَةَ لِلْعَهْدِ وَلَا دَلِيلَ لِلْجِنْسِ فَالْأَجْرُ الْمَوْعُودُ إنَّمَا هُوَ لِإِتْيَانِ الْجَمِيعِ إذْ قَدْرُ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ نَعَمْ قَوْلُهُ «عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي» يُلَائِمُ اخْتِصَاصَهُ بِسُنَّةٍ يُوجِبُ تَرْكُهَا الْفَسَادَ إلَّا إنْ اتَّسَعَ فِي الْفَسَادِ وَيَعُمُّ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْبِدَعِ إلَى ارْتِكَابِ مَكْرُوهٍ وَلَوْ تَنْزِيهًا أَوْ تَرْكِ أَوْلَى فَتَأَمَّلْ