مِقْدَارُ فَضْلِ الْوُسْطَى عَلَى السَّبَّابَةِ.

أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ بَلْ إلَيْهِ إشَارَةٌ وَتَنْبِيهٌ بِالْمُرَادِ «وَيَقُولُ» فِي الْخُطْبَةِ «أَمَّا بَعْدُ» قَدْ عَرَفْت فِي الدِّيبَاجَةِ أَنَّهُ فَصْلُ خِطَابٍ يُؤْتَى بِهِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إلَى أُسْلُوبٍ آخَرَ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَا بَعْدَ مَقْصُودٌ فِي الْكَلَامِ وَمَا قَبْلَهُ كَتَمْهِيدٍ لِمَا بَعْدَهُ.

«فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ» أَيْ كُلِّ حَدِيثٍ وَكَلَامٍ مِمَّا يُتَحَدَّثُ بِهِ «كِتَابُ اللَّهِ» الْقُرْآنُ وَقَدْ عَرَفْت وَجْهَ خَيْرِيَّتِهِ نَظْمًا وَمَعْنًى ( «وَخَيْرَ الْهَدْيِ» بِفَتْحِ الْهَاءِ جَمْعُ هَدِيَّةٍ بِمَعْنَى سِيرَةِ كَالْخَلْقِ «هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ) الْمُرَادُ مِنْ سِيرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ سُنَّتُهُ اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَفِعْلًا قَالَ تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وَقِيلَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْهُدَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الدَّالِ بِمَعْنَى الْإِرْشَادِ وَالدَّلَالَةِ إلَى الْخَيْرِ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي خَيْرِيَّةَ هِدَايَةِ الْحَدِيثِ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ تَأَمَّلْ.

«وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا» الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا إشَارَةٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى إذْنِهَا أَوْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ بَلْ بَعْدَ التَّابِعِينَ فَهَذَا كَعَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ شَرَّ الْأُمُورِ فَمَا وُجِدَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلًا أَوْ قَوْلًا أَوْ تَقْرِيرًا أَوْ سُكُوتًا فَخَيْرُهَا «وَكُلَّ مُحْدَثٍ» أَيْ فِي الْعِبَادَةِ كَمَا فُهِمَ آنِفًا «بِدْعَةٌ» قَبِيحَةٌ عَلَى خِلَافِ الْمِلَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ «وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» خِلَافُ طَرِيقِ السُّنَّةِ.

وَبِمَا حُرِّرَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ بِنَحْوِ تَدْوِينِ عُلُومِ الشَّرْعِ وَآلَاتِهَا وَبِنَاءِ الْمَنَارَةِ وَالْمَدْرَسَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ مُرَخَّصَةٌ وَمَأْذُونَةٌ مِنْ جَانِبِ الشَّرْعِ كَمَا يُفَصَّلُ فِي مَحَلِّهِ

(تَنْبِيهٌ) : نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْقَيِّمِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْطُبُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْمِنْبَرِ وَالْبَعِيرِ وَلَا يَفْتَتِحُ إلَّا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَفْتَتِحُ فِي خُطْبَةِ الِاسْتِسْقَاءِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَكَثِيرًا مَا يَخْطُبُ بِالْقُرْآنِ وَيَخْطُبُ عِنْدَ كُلِّ حَاجَةٍ وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ الْعَارِضَةُ أَطْوَلَ مِنْ الرَّاتِبَةِ.

(خ) يَعْنِي خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ نِسْبَةً إلَى بُخَارَى بَلْدَةٌ مِنْ بِلَادِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وُلِدَ فِيهَا وَصَارَ كَالْعَلَمِ لَهُ وَلِكِتَابِهِ وَيُقَالُ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ فِي حِفْظِ الْحَدِيثِ وَإِتْقَانِهِ وَفَهْمِ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَحِدَّةِ ذِهْنِهِ وَدِقَّةِ نَظَرِهِ وَوُفُورِ فِقْهِهِ وَكَمَالِ زُهْدِهِ وَغَايَةِ وَرَعِهِ وَكَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى طُرُقِ الْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ كَانَ فِي حِفْظِهِ مِائَةُ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ غَيْرُ صَحِيحٍ مِمَّا يُطْلِقُ السَّلَفُ عَلَيْهِ حَدِيثًا وَفِي صِبَاهُ كَانَ فِي حِفْظِهِ سَبْعُونَ أَلْفَ حَدِيثٍ وَبِنَظَرٍ وَاحِدٍ يَحْفَظُ مَا فِي الْكِتَابِ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ لَوْ قَدَرْت أَنْ أَزِيدَ مِنْ عُمْرِي فِي عُمْرِ الْبُخَارِيِّ لَفَعَلْت قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيِّ كُنْت بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ فَرَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقَالَ يَا أَبَا زَيْدٍ إلَى مَتَى تَدْرُسُ كِتَابَ الشَّافِعِيِّ وَلَا تَدْرُسُ كِتَابِي قُلْت وَمَا كِتَابُك قَالَ جَامِعُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ أَنَّهُ أُلْهِمَ طَلَبَ الْحَدِيثِ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ وَلَمَّا بَلَغَ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً رَدَّ عَلَى بَعْضِ مَشَايِخِهِ غَلَطًا وَفِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً حَفِظَ كُتُبَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَوَكِيعٌ وَعَرَفَ كَلَامَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ارْتَحَلَ لِلْحَدِيثِ إلَى الشَّامِ وَمِصْرَ مَرَّتَيْنِ وَإِلَى الْبَصْرَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْحِجَازِ بِلَا إحْصَاءٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ مَا وَضَعْت فِي صَحِيحِي حَدِيثًا إلَّا بَعْدَ غُسْلٍ وَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ وَصَنَّفْته فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَجَعَلْته حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015