وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَقْصِدَ بِالْإِجَابَةِ قَضَاءَ شَهْوَةِ الْبَطْنِ بَلْ الِاقْتِدَاءَ بِالسُّنَّةِ وَيَنْوِي التَّحَرُّزَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى» أَوْ يَنْوِي إكْرَامَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَكْرَمَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ فَإِنَّمَا يُكْرِمُ اللَّهَ تَعَالَى» وَيَنْوِي إدْخَالَ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَرَّ مُؤْمِنًا فَقَدْ سَرَّهُ اللَّهُ» وَيَنْوِي أَيْضًا سُنَّةَ الزِّيَادَةِ. وَثَالِثُهَا آدَابُ الْحُضُورِ فَيَدْخُلُ بِلَا تَصَدُّرٍ بَلْ يَتَوَاضَعُ وَلَا يُطَوِّلُ عَلَيْهِمْ الِانْتِظَارَ، وَلَا يُفَاجِئُ قَبْلَ اسْتِعْدَادِهِمْ وَلَا يَزْحَمُ الْحَاضِرِينَ فِي الْمَكَانِ بَلْ يَجْلِسُ حَيْثُ يَأْمُرُ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ، وَلَا يُكْثِرُ النَّظَرَ إلَى مَوْضِعِ خُرُوجِ الطَّعَامِ، وَإِذَا بَاتَ الضَّيْفُ فِي مَنْزِلِهِ فَلْيُعَرِّفْهُ الْقِبْلَةَ وَمَوْضِعَ الطَّهَارَةِ وَالْوُضُوءِ وَيَغْسِلْ رَبُّ الْبَيْتِ أَوَّلًا يَدَهُ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ يَتَأَخَّرُ، وَإِذَا رَأَى فِي الْبَيْتِ مُنْكَرًا غَيَّرَ بِيَدِهِ إنْ قَدَرَ، وَإِلَّا أَنْكَرَ بِلِسَانِهِ وَانْصَرَفَ كَفُرُشِ الدِّيبَاجِ وَأَوَانِي الْفِضَّة.
وَرَابِعُهَا إحْضَارُ الطَّعَامِ، وَلَهُ آدَابٌ خَمْسَةٌ. الْأَوَّلُ التَّعْجِيلُ.
الثَّانِي تَرْتِيبُ الْأَطْعِمَةِ فَتَقْدِيمُ الْفَاكِهَةِ أَوَّلًا شَرْعًا وَطِبًّا ثُمَّ اللَّحْمُ وَالثَّرِيدُ؛ لِأَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ فَإِنْ جَمَعَ إلَيْهِ حَلَاوَةً فَقَدْ جَمَعَ الطَّيِّبَاتِ وَتَمَامُهَا بِشُرْبِ الْمَاءِ الْبَارِدِ وَزِينَةُ الْمَائِدَةِ الْبُقُولُ لِخُضْرَتِهَا وَتُسْتَحَبُّ.
الثَّالِثُ أَنْ يُقَدِّمَ مِنْ الْأَلْوَانِ أَلْطَفَهَا حَتَّى يَسْتَكْفِئَ مِنْهَا مَنْ يُرِيدُ، وَعَادَةُ الْمُتَرَفِّهِينَ تَقْدِيمُ الْغَلِيظِ لِيُكْثِرَ مِنْ اللَّطِيفِ بَعْدَهُ، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ وَمِنْ سُنَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنْ يُقَدِّمُوا الْأَلْوَانَ جُمْلَةً دَفْعَةً لِيَأْكُلَ كُلٌّ مِمَّا يَشْتَهِي.
الرَّابِعُ أَنْ لَا يُبَادِرَ إلَى رَفْعِ الْأَلْوَانِ بَلْ يُمَكِّنُهُمْ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى يَرْفَعُوا الْأَيْدِيَ، وَأَيْضًا لَا يَرْفَعُ يَدَهُ قَبْلَ الضِّيفَانِ بَلْ يَكُونُ آخِرَهُمْ أَكْلًا.
الْخَامِسُ أَنْ يُقَدِّمَ قَدْرَ الْكِفَايَةِ إذْ النَّقْصُ مِنْهُ نَقْصٌ فِي الْمُرُوءَةِ وَالزِّيَادَةُ تَضْيِيعٌ إلَّا أَنْ تَطِيبَ نَفْسُهُ بِأَكْلِهِمْ الْجَمِيعَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ لَيْسَ فِي الطَّعَامِ سَرَفٌ.
وَخَامِسُهَا الِانْصِرَافُ، وَلَهُ آدَابٌ ثَلَاثَةٌ. الْأَوَّلُ مِنْ سُنَّةِ الْمُضِيفِ أَنْ يُشَيِّعَ إلَى بَابِ الدَّارِ وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ وَطَيِّبُ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي مِنْ التَّوَاضُعِ أَنْ يَنْصَرِفَ الضَّيْفُ طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِنْ جَرَى فِي حَقِّهِ تَقْصِيرٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ الْمَنْزِلِ، وَإِذْنِهِ وَيُرَاعِي قَلْبَهُ فِي قَدْرِ الْإِقَامَةِ، وَإِذَا نَزَلَ ضَيْفًا فَلَا يُقِيمُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا إذَا أَلَحَّ رَبُّ الْمَنْزِلِ عَنْ خُلُوصِ قَلْبٍ (وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْمَلَ كَلَامُهُ) أَيْ الْخُلَاصَةِ (هَذَا عَلَى حَصْرِ الْحَاجَةِ فِي هَذَيْنِ) مِنْ الْمَلَالِ وَالضِّيَافَةِ (بَلْ يَعُمُّ إرَادَةَ التَّلَذُّذِ وَالتَّنَعُّمِ مِنْ غَيْرِ ضَيَاعٍ وَنِيَّةٍ فَاسِدَةٍ) مِنْ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالتَّكَبُّرِ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] مِنْ النَّبَاتِ وَالْحُبُوبِ وَالْمَعَادِنِ كَالْحَرِيرِ وَالْقُطْنِ {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ {قُلْ هِيَ} [الأعراف: 32] أَيْ الطَّيِّبَاتُ {لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا الْكَافِرُ {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الْآيَةَ) - {وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]- أَيْ لَا تُبَالِغُوا فِي التَّضْيِيقِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي تَحْرِيمِ الْمُبَاحَاتِ - {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]- لَا يَرْضَى عَنْ تَجَاوُزِ الْحَدِّ نَزَلَتْ فِي جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - هَمُّوا بِاعْتِزَالِ نَحْوِ النِّسَاءِ وَتَرْكِ طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ (وَقَدْ صَرَّحُوا) أَيْ الْفُقَهَاءُ (بِجَوَازِ التَّفَكُّهِ بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ مُسْتَدِلِّينَ بِالْآيَتَيْنِ وَرَوَوْهُ) أَيْ الصَّحَابَةُ التَّفَكُّهَ (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لَعَلَّ الْأَوْلَى