ظَاهِرِهِ نَوْعَ مُخَالَفَةٍ لِمَا يَذْكُرُهُ هُنَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْيِيدِ الدَّافِعِ لِتِلْكَ الْمُخَالَفَةِ (وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ) مِنْ الْحَدِيثَيْنِ (التَّشْبِيهُ) بِالْإِسْرَافِ يَعْنِي بِمَنْزِلَةِ الْإِسْرَافِ لَا نَفْسِهِ فِي كَوْنِهِ حَظْرًا مُطْلَقًا (لَا التَّحْرِيمُ) إذْ هُوَ مَكْرُوهٌ، وَلَوْ تَنْزِيهًا فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً مُصَرَّحَةً وَوَجْهُ الشَّبَهِ مُطْلَقُ الْحَظْرِيَّةِ وَغَرَضُهُ التَّأَكُّدُ فِي الْإِنْكَارِ وَالْمُبَالَغَةِ لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ وَمِنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْرَافِ لَا مِنْ بَابِ الْإِسْرَافِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَشْمَلُ مَا لَا يَكُونُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ مِنْ مُلْحَقِهِ وَتَابِعِهِ بِخِلَافِ الثَّانِي كَمَا نَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَحْمَدُ الْإِيَادِيُّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِغُفْرَانِهِ عَنْ الْبَعْضِ.
(وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِسْرَافِ الْخَفِيِّ (الْإِكْثَارُ فِي الْبَجَّاتِ) أَيْ فِي أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ (إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْإِكْثَارِ لَكِنْ بِشَرْطِ نِيَّةِ الْعِبَادَةِ (بِأَنْ يَمَلَّ مِنْ بَجَّةٍ) أَيْ مِنْ نَوْعٍ (فَيَسْتَكْثِرَ) الْبَجَّاتِ (حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ) مِنْهَا (شَيْئًا) الظَّاهِرُ أَنَّ التَّنْوِينَ لِلتَّقْلِيلِ أَوْ التَّحْقِيرِ (فَيَجْتَمِعَ) مِنْ الْبَجَّاتِ (قَدْرُ مَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ أَوْ قَصَدَ) بِتَكْثِيرِهَا (أَنْ يَدْعُوَ الْأَضْيَافَ قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ إلَى أَنْ يَأْتُوا إلَى آخِرِ الطَّعَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ) أَيْ بِإِكْثَارِ الْبَجَّاتِ عَنْ السُّيُوطِيّ هُنَا الْبَأْسُ الْحَرْبُ ثُمَّ كَثُرَ فِي الْخَوْفِ أَيْ لَا خَوْفَ، وَعَنْ الْغَيْرِ هِيَ كَلِمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُتَرَدَّدُ فِي أَمْرِهِ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت فِيمَا سَبَقَ تَفْصِيلَهَا لَكِنَّ الْأَكْثَرَ فِيمَا تَرَكَهُ أَوْلَى (كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ) فِي خَامِسٍ الْكَرَاهِيَةُ لَكِنْ ذَكَرَ فِي قُبَيْلِهِ أَيْضًا وَمِنْ الْإِسْرَافِ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ إلَّا لِأَجْلِ الضَّيْفِ أَوْ يُرِيدُ صَوْمَ الْغَدِ وَإِذَا أَكَلَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ لِيَسْتَقِيَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ قَالَ رَأَيْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَأْكُلُ أَلْوَانًا مِنْ الطَّعَامِ وَيُكْثِرُ ثُمَّ يَتَقَيَّأُ وَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ. انْتَهَى.
فِي التتارخانية عَنْ الْخَانِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَلَا يَخْفَى حِينَئِذٍ مَا فِي الْحَصْرِ مِنْ الْخَفَاءِ (وَغَيْرِهِ) قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة وَمِنْ الْإِسْرَافِ فِي الطَّعَامِ الْإِكْثَارُ فِي الْبَجَّاتِ وَالْأَلْوَانِ إلَخْ ثُمَّ لَا عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ هُنَا خُلَاصَةَ مَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ فِي أَمْرِ الضِّيَافَةِ هِيَ سُنَّةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ خَرَجَ مِيلًا أَوْ مِيلَيْنِ يَلْتَمِسُ مَنْ يَتَغَدَّى مَعَهُ؛ وَلِصِدْقِ نِيَّتِهِ فِيهَا دَامَتْ ضِيَافَتُهُ فِي مَشْهَدِهِ.
«وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الْإِسْلَامُ فَقَالَ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَبَذْلُ السَّلَامِ» ، وَفِيهَا خَمْسَةُ آدَابٌ أَحَدُهَا الدَّعْوَةُ فَيَدْعُو الْأَتْقِيَاءَ دُونَ الْفُسَّاقِ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ» وَيَقْصِدُ الْفُقَرَاءَ وَلَا يَخُصُّ الْأَغْنِيَاءَ وَفِي الْحَدِيثِ «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ تُدْعَى إلَيْهِ الْأَغْنِيَاءُ وَيُذَادُ عَنْهُ الْفُقَرَاءُ» وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُهْمِلَ أَقَارِبَهُ فَإِنَّهُ قَطْعُ رَحِمٍ، وَأَنْ لَا يَقْصِدَ الْمُبَاهَاةَ وَالتَّفَاخُرَ بَلْ اسْتِمَالَةَ قُلُوبِ الْإِخْوَانِ وَالتَّسَنُّنَ بِسُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إطْعَامِ الطَّعَامِ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَدْعُو مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَشُقُّ الْإِجَابَةُ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَضَرَ تَأَذَّى بِالْحَاضِرِينَ فَيَدْعُو مَنْ يُحِبُّ دَعْوَتَهُ. وَثَانِيهَا الْإِجَابَةُ هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَفِي الْحَدِيثِ «لَوْ دُعِيتُ إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ» ، وَلَهَا آدَابٌ خَمْسَةٌ الْأَوَّلُ أَنْ لَا يُمَيِّزَ الْغَنِيَّ بِالْإِجَابَةِ عَنْ الْفَقِيرِ إلَّا إذَا عَلِمَ فِي دَعْوَتِهِ فَخْرًا وَتَكَلُّفًا فَيَتَعَلَّلُ وَلَا يُجِيبُ الثَّانِي أَنْ لَا يَمْتَنِعَ عَنْ الْإِجَابَةِ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ، وَقِيلَ يُجِيبُ قَدْرَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ.
الثَّالِثُ أَنْ يَحْضُرَ، وَلَوْ صَائِمًا تَطَوُّعًا، وَلْيَنْوِ إدْخَالَ السُّرُورِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْ الدَّاعِي تَكَلُّفًا فَيَتَعَلَّلُ، وَإِذَا لَمْ يُفْطِرْ فَضِيَافَتُهُ الطِّيبُ وَالْكَلَامُ الطَّيِّبُ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْإِجَابَةِ أَنَّ فِي الطَّعَامِ شُبْهَةً أَوْ الْمَوْضِعِ أَوْ الْبِسَاطِ أَوْ فِي الْمَقَامِ مُنْكَرًا مِنْ فُرُشِ دِيبَاجٍ أَوْ إنَاءِ فِضَّةٍ أَوْ تَصْوِيرِ حَيَوَانٍ أَوْ سَمَاعِ الْمَلَاهِي أَوْ الْهَزْلِ أَوْ اللَّعِبِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ وَكَذَا إذَا كَانَ الدَّاعِي ظَالِمًا أَوْ مُبْتَدِعًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ شِرِّيرًا أَوْ مُتَكَلِّفًا طَلَبًا لِلْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ