إرْجَاعُ الضَّمِيرِ الثَّانِي إلَى مَا أُرْجِعَ إلَيْهِ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ لَكِنْ لَمْ نَظْفَرْ فِيمَا عِنْدَنَا مِنْ الْفِقْهِيَّةِ عَلَى عَيْنِ هَذَا التَّصْرِيحِ وَحُمِلَ هَذَا التَّصْرِيحُ عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَمْعِ الْفَوَاكِهِ وَالْبَجَّاتِ) بَعِيدٌ مِنْ تَبَادُرِ اللَّفْظِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ دَلِيلٌ آخَرُ ظَاهِرُهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ إذْ عَدَمُ الْفَرْقِ إنَّمَا يَتَحَصَّلُ عِنْدَ التَّسَاوِي لَكِنَّ الْمُتَبَادَرَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ فَلَا يَرِدُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَالنَّصُّ مَوْجُودٌ عَلَى دَعْوَى الْمُصَنِّفِ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَمْثَالِهِ سِيَّمَا عَلَى عَادَةِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ دَلِيلَ الْمُقَلِّدِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالنُّصُوصِ إنَّمَا هُوَ مَنْصِبُ الْمُجْتَهِدِ، وَقَدْ اُتُّفِقَ عَلَى انْقِرَاضِ الْمُجْتَهِدِ فِي زَمَانِنَا وَالْأَصَحُّ عَدَمُ تَجَزِّي الِاجْتِهَادِ سِيَّمَا قَدْ اُحْتُجَّ هُنَا أَوَّلًا بِصَرِيحِ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فَالِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ.
(خ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَدِيثٌ مَوْقُوفٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَلَامٌ مَذْكُورٌ فِي مَحَلِّهِ لَا يَخْلُو عَنْ إشْكَالٍ لَعَلَّ الْحَقَّ فِي الْجَوَابِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ بَلْ لِتَأْيِيدِهِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْحُجَّةِ فَكَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ أَخَذَ هَذَا الْحُكْمَ مِنْ هَذَا النَّصِّ أَوْ أَنْ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاجْتِهَادِ لَيْسَ كُلَّ الْحُكْمِ فَإِنَّ بَعْضَ النُّصُوصِ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى يَفْهَمُهُ كُلُّ عَالِمٍ عَامِّيٍّ، وَأَنَّ كُلَّ نَصٍّ مُوَافِقٌ لِقِيَاسِ الْفُقَهَاءِ فَيُحْتَجُّ بِهِ مُطْلَقًا فَاحْفَظْهُ فَإِنَّهُ يَنْفَعُك فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. «كُلْ مَا شِئْتَ» مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْفَوَاكِهِ «وَالْبَسْ مَا شِئْتَ» فَلَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِ نَحْوِ الْمَكْرُوهِ وَمَا فِيهِ شُبْهَةٌ فَضْلًا عَنْ الْمُحَرَّمِ «مَا أَخْطَأَك سَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ» أَيْ مُدَّةُ خَطَأِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ عَنْك.
حَاصِلُهُ أَنَّ أَكْلَ كُلِّ مَأْكُولٍ، وَلُبْسَ كُلِّ مَلْبُوسٍ جَائِزٌ لَك مَا لَمْ يَصِلْ إلَى رُتْبَةِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالسَّرَفُ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا عَرَفْت أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الشِّبَعِ مَثَلًا، وَفِي اللِّبَاسِ كَأَنْ يَكُونَ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَيْسَا لِلنَّدَبِ كَمَا لَا يَكُونَانِ لِلْوُجُوبِ بَلْ لِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ فَلَا يُنَافِي مَمْدُوحِيَّةَ قِلَّتِهِمَا خُصُوصًا قِلَّةَ الْأَكْلِ قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ هَلْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى طِبٌّ قَالَ نَعَمْ جُمِعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ - {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]- يَعْنِي أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَنْشَأُ الْأَمْرَاضِ، وَقِيلَ مَنْ قَلَّ أَكْلُهُ كَانَ أَصَحَّ جِسْمًا، وَأَجْوَدَ حِفْظًا، وَأَذْكَى فَهْمًا وَأَقَلَّ نَوْمًا، وَأَخَفَّ بَدَنًا وَزِيدَ فِي الْبُسْتَانِ، وَفِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ مَضَارُّ كَثِيرَةٌ مِنْهَا التُّخَمَةُ وَتَوَلُّدُ الْأَمْرَاضِ الْمُخْتَلِفَةِ وَفِي الْحَدَائِقِ الْجُوعُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْمُجَاهَدَةِ وَبِسَبَبِهِ تَنْفَجِرُ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ، وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ مِفْتَاحُ الدُّنْيَا الشِّبَعُ وَمِفْتَاحُ الْآخِرَةِ الْجُوعُ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيّ الْجُوعُ نُورٌ وَالشِّبَعُ نَارٌ، وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ أَيْضًا عَنْ الرَّازِيّ الْجُوعُ لِلْمُرِيدِينَ رِيَاضَةٌ؛ وَلِلتَّائِبِينَ تَجْرِبَةٌ؛ وَلِلزَّاهِدِينَ سِيَاسَةٌ.
(وَمِنْهُ أَكْلُ مَا انْتَفَخَ مِنْ الْخُبْزِ أَوْ) أَكْلُ (وَسَطِهِ مَعَ تَرْكِ جَوَانِبِهِ إنْ لَمْ يَأْكُلْهَا أَحَدٌ، وَإِنْ كَانَ يَخَالُ يَأْكُلُهَا غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا وَمِنْهُ وَضْعُ الْخُبْزِ عَلَى الْمَائِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ كَذَا فِي الِاخْتِيَار وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا) أَيْ كَلَامُ الِاخْتِيَارِ (أَيْضًا) كَكَلَامِ الْخُلَاصَةِ