(وَعَدَمِ الْتِقَاطِ مَا سَقَطَ مِنْ كِسْرَاتِ الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ) كِبْرًا وَكَسَلًا كَحَبَّاتِ الْأُرْزِ وَالْعَدَسِ السَّاقِطِ، وَفِي الْبُسْتَانِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَكَلَ مَا سَقَطَ مِنْ الْمَائِدَةِ لَمْ يَزَلْ فِي سَعَةٍ مِنْ الرِّزْقِ وَوُقِيَ الْحُمْقَ عَنْهُ، وَعَنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ» (مِنْ أَيْدِي الصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ) مِنْ الشُّيُوخِ وَالْمُغَفَّلِينَ (عَلَى الْأَرْضِ أَوْ عَلَى سُفْرَةٍ) . قِيلَ الْإِثْمُ فِي عَدَمِ الْتِقَاطِ مَا سَقَطَ مِنْ أَيْدِي الصِّبْيَانِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَفِي غَيْرِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَكَذَا الْإِثْمُ عَلَى الْأَضْيَافِ فِي طَعَامِ الضِّيَافَةِ لَا عَلَى صَاحِبِهَا. أَقُولُ لَيْسَ الْإِثْمُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فَقَطْ بَلْ عَلَى كُلِّ مَنْ يَحْضُرُ عِنْدَهُمْ وَيَقْدِرُ عَلَى الِالْتِقَاطِ هَذَا ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ فِيمَا فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ بَذْلِ الْمَالِ، وَقَدْ عَرَفْت سَابِقًا بِبَذْلِ الْمَالِ أَوْ بِإِهْلَاكِ الْمَالِ وَجَعْلِ الْبَذْلِ أَيْ الصَّرْفِ أَعَمَّ إلَى جِنْسِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْعَدَمِيَّاتِ بِجَعْلِ الْبَذْلِ بِمَا يَكُونُ ابْتِدَاءً أَوْ الْتِزَامًا لَا يَشْمَلُ جَمِيعَ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ سِيَّمَا مِثْلَ مَا سَقَطَ مِنْ يَدِ الصِّبْيَانِ خُصُوصًا بِلَا إسْقَاطٍ وَبَعْدَ هَذَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ حِينَئِذٍ تَعْرِيفًا بِالْأَخْفَى وَمَا سَيَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ لَهُ تَقْرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَسَيُعْلَمُ (م عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ» أَيْ الْقَصْعَةِ الصَّغِيرَةِ وَجَمْعُهَا صِحَافٌ، وَعَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ قَصْعَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ، وَعَنْ الْكِسَائِيّ أَعْظَمُ الْقِصَاعِ الْجَفْنَةُ ثُمَّ الْقَصْعَةُ تَلِيهَا تُشْبِعُ الْعَشَرَةَ ثُمَّ الصَّحْفَةُ تُشْبِعُ الرَّجُلَ.
وَفِي بُسْتَانِ أَبِي اللَّيْثِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَى الَّذِينَ يَلْعَقُونَ أَصَابِعَهُمْ» ، وَفِيهِ أَيْضًا «الْقَصْعَةُ تَسْتَغْفِرُ لِمَنْ يَلْعَقُهَا» ، وَفِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ «إذَا طَعِمَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ حَتَّى يَمُصَّهَا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ طَعَامٍ يُبَارَكُ لَهُ» ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ كَمَا قِيلَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْرَافِ إذْ الْإِسْرَافُ حَرَامٌ، وَتَرْكُ النَّدْبِ لَيْسَ بِحَرَامٍ فَلَا تَقْرِيبَ فَانْتَظِرْ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «إنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ» صِفَةُ شَيْءٍ أَيْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ شَأْنِ أَحَدِكُمْ وَحَالِهِ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ حَالٍ وَشَأْنٍ يَصْدُرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ فَالشَّيْطَانُ حَاضِرٌ «حَتَّى يَحْضُرَهُ» أَيْ الشَّيْطَانُ كُلَّ أَحَدٍ «عِنْدَ طَعَامِهِ» لِيَأْكُلَ مِنْ سَقَطَاتِ لُقْمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ فَظَهَرَ ضَعْفُ مَا يُقَالُ لِيَشْغَلَهُ عَنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ «فَإِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ» قِيلَ بِضَمِّ اللَّامِ «فَلْيَأْخُذْهَا» ، وَإِلَّا فَيَأْخُذُهَا الشَّيْطَانُ وَيَأْكُلُهَا «فَلْيُمِطْ» أَيْ لِيُزِلْ بَعْدَ الْأَخْذِ «مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى» مِنْ تُرَابٍ وَسِخٍ طَاهِرٍ أَوْ نَجِسٍ يُمْكِنُ إزَالَتُهُ «، وَلْيَأْكُلْهَا» فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إزَالَتُهُ النَّجَسَ فَلَا يَأْكُلُهَا بَلْ يَدَعُهَا، وَقِيلَ يُطْعِمُهَا كَلْبًا أَوْ هِرَّةً لِمَا فِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ أَكَلَ كِسْرَاتِ الْخُبْزِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى إلَّا فَضْلَ إطْعَامِ نَحْوِ الشَّاةِ، وَلَا يُلْقَ فِي النَّهْرِ أَوْ الطَّرِيقِ إلَّا لِأَجْلِ النَّمْلِ كَمَا فَعَلَهُ السَّلَفُ.
أَقُولُ: لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ التَّقْرِيبِ بَلْ لَا بُدَّ فِي جَوَازِ إطْعَامِ النَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ إلَى الْحَيَوَانِ مِنْ حُجَّةٍ وَبَيَانٍ فَإِنَّ تَبَادَرَ قَوْلُهُ يُطْعِمُهَا الْحَمْلَ إلَيْهَا لِأَجْلِ الْأَكْلِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ فِي دَجَاجَةٍ نَجِسَتْ لَا طَرِيقَ لِأَكْلِهَا إلَّا أَنْ تُحْمَلَ الْهِرَّةُ إلَيْهَا فَتَأْكُلَهَا نَعَمْ فِي التَّتَارْخَانِيَّة الْمَاءُ وَالدُّهْنُ إذَا، وَقَعَتْ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا فِي غَيْرِ الْبَدَنِ كَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَبَلِّ الطِّينِ وَالِاسْتِصْبَاحِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُمَا «فَلَا يَدَعُهَا لِلشَّيْطَانِ» يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ إشَارَةِ النَّصِّ أَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا يَأْكُلُهَا الشَّيْطَانُ فَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَكْلِ كَمَا أَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلنِّعْمَةِ وَتَحْقِيرُهَا وَاقْتِدَاءٌ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَقِيلَ هُنَا يَعْنِي أَنَّ تَرْكَ اللُّقْمَةِ إسْرَافٌ، وَهُوَ حَرَامٌ مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ نَاشِئٌ مِنْ وَسْوَسَتِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَمَسَّ فِي مَقْصُودِ الْمَقَامِ لَكِنَّ دَلَالَةَ الْعِبَارَةِ عَلَى الْإِسْرَافِ الْمُحَرَّمِ لَا تَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَوْنِ التَّرْكِ لِأَكْلِ نَحْوِ حَيَوَانٍ فَافْهَمْ. نَعَمْ فِي الْخُلَاصَةِ وَمِنْ السَّرَفِ أَنْ يَتْرُكَ لُقْمَةً مِنْ يَدِهِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِتِلْكَ اللُّقْمَةِ «فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ» فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اللَّعْقَ لَا يَكُونُ فِي وَسَطِ الْأَكْلِ بَلْ فِي خِتَامِهِ قَالُوا