{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] (وَعَنْ الْمَوْتِ وَالْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ) الضَّارَّةُ (غَالِبَةٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمَالِ (قَلَّمَا يَنْفَكُّ صَاحِبُهُ عَنْهَا) أَيْ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الضَّارَّةِ (فَلِذَلِكَ كَثُرَ الذَّمُّ) لِلْمَالِ وَالدُّنْيَا (فَلِلْمَالِ جِهَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ خَيْرٌ وَشَرٌّ فَالْمَدْحُ وَالذَّمُّ حَقَّانِ فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ نِعْمَةً عَظِيمَةً فَإِسْرَافُهُ اسْتِحْقَارٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِهَانَةٌ لَهَا، وَإِضَاعَةٌ وَكُفْرَانٌ بِهَا وَتَرْكٌ لِشُكْرِهَا فَيَسْتَوْجِبُ الْمَقْتَ وَالْبُغْضَ وَالْعِتَابَ وَالْعَذَابَ مِنْ مُعْطِيهَا) ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى (وَ) يَسْتَوْجِبُ (سَلْبَهَا) أَيْ سَلْبَ النِّعْمَةِ (وَإِزَالَتَهَا عَنْ مَحَلِّهَا) ، وَهُوَ الْعَبْدُ (لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ قَدْرَهَا، وَ) عَدَمِ (رِعَايَتِهِ حَقِّهَا كَمَا أَنَّ شُكْرَهَا وَحِفْظَهَا عَمَّا ذُكِرَ) مِنْ الْبُخْلِ وَالْإِسْرَافِ أَوْ مِنْ الِاسْتِحْقَارِ وَالْإِهَانَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَهُوَ الْأَنْسَبُ (يَسْتَوْجِبُ ثَبَاتَهَا وَزِيَادَتَهَا) عَلَى الشَّاكِرِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] قِيلَ هُنَا وَالْخِطَابُ، وَإِنْ كَانَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَحْرَى بِحَوْزِ الْكَمَالَاتِ مِنْهُمْ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ بَلْ الْأَوْلَى فِي مِثْلِهِ أَنْ يُبْتَنَى عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهَا اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَ بِهَا الرَّسُولُ بِلَا نَكِيرٍ.
(الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ) لِلْإِسْرَافِ (فِي أَصْنَافِ الْإِسْرَافِ) لَمَّا أَثْبَتَ مَذْمُومِيَّةَ الْإِسْرَافِ وَحُرْمَتَهُ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَحَصَلَ لِلسَّالِكِ نَفْرَةٌ مِنْهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَصْنَافَهُ لِيُمْكِنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. (اعْلَمْ أَنَّ الْإِسْرَافَ إهْلَاكُ الْمَالِ وَإِضَاعَتُهُ، وَإِنْفَاقُهُ) قِيلَ الْأَوْلَى، وَإِنْفَاذُهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مَحَلَّ الْقَافِ لِمَا أَنَّ الْإِنْفَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْخَيْرِ. انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ فَافْهَمْ (مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ مُعْتَدٍّ بِهَا) قُيِّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ لَا يَصْدُرُ عَنْ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ إلَّا بَعْدَ التَّحْقِيقِ بِفَائِدَةٍ مَا، وَلَكِنَّ تِلْكَ الْفَائِدَةَ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهَا يُقَالُ لَهُ فِي الْمَالِ إسْرَافٌ، وَفِي غَيْرِهِ عَبَثٌ (دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ مُبَاحَةٍ) احْتِرَازٌ عَنْ إنْفَاقِهِ بِفَائِدَةٍ مُعْتَدَّةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ غَيْرِ مُبَاحَةٍ فِي الشَّرْعِ كَإِنْفَاقِهِ فِي الثِّيَابِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْأَوَانِي الْمُحَرَّمَةِ (فَمِنْهُ) مِنْ الْإِسْرَافِ (ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ) يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ (كَإِلْقَاءِ الْمَالِ فِي الْبَحْرِ وَالْبِئْرِ وَالنَّارِ وَنَحْوِهَا) مِنْ الْمُتْلِفَاتِ كَصَبِّ الدِّبْسِ وَالزَّيْتِ عَلَى الْأَرْضِ (مِمَّا لَا يُوصَلُ إلَيْهِ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِيهِ وَخَرْقِهِ وَكَسْرِهِ، وَقَطْعِهِ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ)