- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ» ؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ الْمَحَبَّةِ تَقْتَضِي اسْتِحْصَالَ شَهَوَاتِهَا وَالتَّوَجُّهَ إلَى مُيُولَاتِهَا فَلَا يَتَفَرَّغُ لِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَمَنْ نَظَرَ إلَى فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحِسَابِ حَلَالِهَا، وَعَذَابِ حَرَامِهَا وَشَاهَدَ بِنُورِ إيمَانِهِ جَمَالَ الْآخِرَةِ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ فِي دُنْيَاهُ بِتَحَمُّلِ مَشَاقِّ الْعِبَادَاتِ وَتَجَنُّبِ الشَّهَوَاتِ فَصَبَرَ قَلِيلًا وَتَنَعَّمَ طَوِيلًا؛ وَلِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ شَغَلَتْهُ عَنْ تَفْرِيغِ قَلْبِهِ لِحُبِّ رَبِّهِ؛ وَلِسَانِهِ لِذِكْرِهِ فَتَضُرُّ بِآخِرَتِهِ، وَلَا بُدَّ كَمَا أَنَّ مَحَبَّةَ الْآخِرَةِ تَضُرُّ بِالدُّنْيَا.
وَلَا بُدَّ كَمَا قَالَ (وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ) بِتَحَمُّلِ مَا يَنْفَعُهُ فِيهَا (أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ) أَيْ هُمَا كَكِفَّتَيْ الْمِيزَانِ فَإِذَا رَجَحَتْ إحْدَاهُمَا خَفَّتْ الْأُخْرَى وَكَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمُحَالٌ أَنْ يَظْفَرَ سَالِكُ طَرِيقِ الشَّرْقِ بِمَا يُوجَدُ فِي الْغَرْبِ وَكَالضَّرَّتَيْنِ إذَا رَضِيَتْ إحْدَاهُمَا سَخِطَتْ الْأُخْرَى فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يَكَادُ يَكُونُ إلَّا لِمَنْ سَخَّرَهُ اللَّهُ لِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. «فَآثِرْ» أَنْتَ «مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» وَمَنْ أَحَبَّهَا صَيَّرَهَا غَايَتَهُ وَتَوَسَّلَ إلَيْهَا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ وَسَائِلَ إلَيْهِ، وَإِلَى الْآخِرَةِ فَعَكَسَ الْأَمْرَ، وَقَلَّتْ الْحِكْمَةُ فَانْتَكَسَ قَلْبُهُ، وَعَكَسَ قَضِيَّتَهُ إلَى وَرَائِهِ، وَهَذَا سِرٌّ مَنْكُوسٍ، وَقَلْبٌ مَعْكُوسٍ، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ كَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إذَا قَرَبْت مِنْ إحْدَاهُمَا بَعُدْت مِنْ الْأُخْرَى، وَفِي الْحَدِيثِ «فَكُونُوا أَبْنَاءَ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا أَبْنَاءَ الدُّنْيَا» ، وَعَنْ فُضَيْلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى لَكَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْتَارَ خَزَفًا يَبْقَى فَكَيْفَ نَخْتَارُ خَزَفًا يَفْنَى عَلَى ذَهَبٍ يَبْقَى.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَثَلُ صَاحِبِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْمَاشِي عَلَى الْمَاءِ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ لَا يَبْتَلَّ قَدَمَاهُ فَكُلُّ مَا أَلْهَاك عَنْ مَوْلَاك فَهُوَ دُنْيَاك» .
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا زَهَّدَهُ فِي الدُّنْيَا وَرَغَّبَهُ فِي الْآخِرَةِ وَبَصَّرَهُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّك اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّك النَّاسُ» .
(هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «هَلْ مِنْ أَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ إلَّا ابْتَلَّتْ قَدَمَاهُ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ كَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّنْيَا لَا يَسْلَمُ مِنْ الذُّنُوبِ» لِإِفْضَائِهَا إلَيْهَا وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَسْتَقِيمُ حُبُّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ» ، وَعَنْ الْإِحْيَاءِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «لَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتَتْ إبْلِيسَ جُنُودُهُ فَقَالُوا قَدْ بُعِثَ نَبِيٌّ وَأُخْرِجَتْ أُمَّةٌ قَالَ أَيُحِبُّونَ الدُّنْيَا قَالُوا نَعَمْ قَالَ لَئِنْ كَانُوا يُحِبُّونَهَا مَا أُبَالِي أَنْ لَا يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ، وَأَنَا أَغْدُو عَلَيْهِمْ، وَأَرُوحُ بِثَلَاثٍ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ، وَإِنْفَاقِهِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَإِمْسَاكِهِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ تَبَعٌ لِذَلِكَ» .
(حَدّ) أَحْمَدُ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ» لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْ الدَّارِ الْإِقَامَةَ