حَدِيثًا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ (وَهُوَ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (مَعَ طُولِ الْأَمَلِ) ؛ لِأَنَّهُ مَعَ قِصَرِهِ لَا يُتَصَوَّرُ حُبُّ الدُّنْيَا (وَعِلَاجُ طُولِ الْأَمَلِ كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَغَوَائِلِهِ، وَقَدْ سَبَقَ) بَيَانُهُمَا (وَأَمَّا حُبُّ الدُّنْيَا فَإِنْ كَانَ مِنْ الْحَرَامِ فَحَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْحَلَالِ فَلَا) ؛ لِأَنَّهُ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ (وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ جِدًّا) ؛ لِأَنَّهُ مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍّ وَمَعْدِنُ كُلِّ فِتْنَةٍ لَا يَخْفَى مَا فِي إطْلَاقِهِ بَلْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ. .
(وَفِيهِ) أَيْ فِي بَيَانِ حُبِّ الدُّنْيَا (مَقَالَتَانِ الْمَقَالَةُ الْأُولَى فِي ذَمِّهِ وَغَوَائِلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20]- الْآيَةَ) {وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد: 20] يَعْنِي أَنَّهَا أُمُورٌ خَيَالِيَّةٌ قَلِيلَةُ النَّفْعِ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ أَتْعَابٌ كَتَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ وَمَلْعَبَةِ الصِّبْيَانِ فِي عَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَلَهْوٌ يَلْهُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ عَمَّا يُهِمُّهُمْ وَزِينَةٌ كَالْمَلَابِسِ الْحَسَنَةِ الْبَهِيَّةِ وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ وَتَفَاخُرٌ بِالْأَنْسَابِ وَتَكَاثُرٌ بِالْعَدَدِ فَإِنْ قِيلَ الدُّنْيَا رُبَّمَا تَكُونُ خَيْرًا كَكَوْنِ الْأَمْوَالِ مَصْرُوفَةً إلَى رِضَاهُ وَطَاعَاتِهِ وَكَوْنِ الْأَوْلَادِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْأَعْمَالِ الْغَيْرِ الْمُنْقَطِعَةِ قُلْنَا مُثِّلَ هَذَا بِالْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْكَلَامِ إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَطَبْعُهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ» مَطْرُودَةٌ وَمَبْغُوضَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ مَتْرُوكَةٌ مُبْعَدَةٌ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْ النُّفُوسَ بِزَهْرَتِهَا، وَلَذَّتِهَا وَإِمَالَتِهَا عَنْ الْعُبُودِيَّةِ إلَى الْهَوَى حَتَّى سَلَكَتْ غَيْرَ طَرِيقِ الْهُدَى «مَلْعُونٌ مَا فِيهَا» مِنْ الشَّهَوَاتِ كَحُبِّ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ «إلَّا ذِكْرَ اللَّهِ» أَيْ كُلَّ شَيْءٍ مُذَكِّرٍ لِلَّهِ تَعَالَى «وَمَا وَالَاهُ» أَيْ يُحِبُّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْمُوَالَاةُ الْمَحَبَّةُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ يَعْنِي مَلْعُونٌ مَا فِي الدُّنْيَا إلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ مِمَّا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا وَمَا سِوَاهُ مَلْعُونٌ «، وَعَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا» فَإِنَّ هَذِهِ مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ، وَفِي عَطْفِ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي مَا وَالَاهُ عَلَى طَرِيقِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِهِمَا، وَإِيذَانٌ بِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ سِوَاهُمَا هَمَجٌ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هُنَا جَامِعُوا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَرَأْسُ كُلِّ الْعِبَادَةِ وَالْحَدِيثُ مِنْ كُنُوزِ الْحِكَمِ وَجَوَامِعِ الْكَلِمِ لِدَلَالَتِهِ بِالْمَنْطُوقِ عَلَى جَمِيعِ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ وَبِالْمَفْهُومِ عَلَى رَذَائِلِهَا الْقَبِيحَةِ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَهُوَ مَا لَيْسَ لَهُ بَقَاءٌ؛ لِأَنَّ مَا خُلِقَ فِيهَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مَعَ حَقَارَتِهِ أَمَدًا قَلِيلًا ثُمَّ يَنْقَضِي وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ