أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ مَا قَدَرَ بِتَأْوِيلَاتٍ فَعِنْدَ مُطْلَقِ الظَّنِّ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَجَاسَرَ عَلَى الْمُمَاشَاةِ عَلَى مُوجِبِ ظَنِّهِ وَيَحْمِلُ عَلَى الصَّلَاحِ بِأَدْنَى إمْكَانٍ إلَّا إذَا اقْتَضَى دَوَاعِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالتَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ الشَّرْعِيِّ (فَإِنَّهُ حَرَامٌ) قَالَ الْغَزَالِيُّ وَهُوَ حَرَامٌ كَسُوءِ الْقَوْلِ لَكِنْ لَسْت أَعْنِي بِهِ إلَّا عَقْدَ الْقَلْبِ حُكْمَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِالسُّوءِ أَمَّا الْخَوَاطِرُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ فَعَفْوٌ بَلْ الشَّكُّ عَفْوٌ أَيْضًا فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الظَّنُّ وَالظَّنُّ مَا تَرْكَنُ إلَيْهِ النَّفْسُ وَيَمِيلُ إلَيْهِ الْقَلْبُ وَسَبَبُ حُرْمَتِهِ أَنَّ أَسْرَارَ الْقُلُوبِ لَا يَعْرِفُهَا إلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَيَلْزَمُ الْمُنَازَعَةُ مَعَهُ تَعَالَى فِي الْحَصْرِ بِدَعْوَى الْمُشَارَكَةِ فَلَيْسَ لَك الظَّنُّ إلَّا بِعِيَانٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ كَمَا قِيلَ
إذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ ... وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ
وَعَادَى مُحِبِّيهِ بِقَوْلِ عَدُوِّهِ ... وَأَصْبَحَ فِي لَيْلٍ مِنْ الشَّكِّ مُظْلِمِ
(قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] كُونُوا مِنْهُ عَلَى جَانِبٍ وَإِبْهَامِ الْكَثِيرِ لِيَحْتَاطَ فِي كُلِّ ظَنٍّ وَيَتَأَمَّلُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْقَبِيلِ فَإِنَّ مِنْ الظَّنِّ مَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ كَالظَّنِّ حَيْثُ لَا قَاطِعَ فِيهِ مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَحْرُمُ كَالظَّنِّ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ حَيْثُ يُخَالِفُهُ قَاطِعٌ وَظَنُّ السُّوءِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَمَا يُبَاحُ كَالظَّنِّ فِي الْأُمُورِ الْمُعَايَشَةِ {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْأَمْرِ وَالْإِثْمُ الذَّنْبُ الَّذِي تُسْتَحَقُّ الْعُقُوبَةُ عَلَيْهِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إثْمِيَّةِ بَعْضِ الظَّنِّ الِاجْتِنَابُ عَنْ أَكْثَرِ الظَّنِّ غَايَتُهُ إثْمِيَّةُ بَعْضِ الظَّنِّ وَأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ لَيْسَ بِإِثْمٍ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْبَعْضَ يَتَحَقَّقُ فِي ضِمْنِ الْأَكْثَرِ وَأَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي النُّصُوصِ عِنْدَنَا فَيَكُونُ صُورَةُ الدَّلِيلِ إذَا كَانَ أَكْثَرُ الظَّنِّ إثْمًا فَالِاجْتِنَابُ عَنْ أَكْثَرِهِ لَازِمٌ لَكِنَّ الْمُقَدَّمَ صِدْقٌ وَهُوَ قَوْلُهُ - {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]- لَكِنْ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْأَكْثَرُ الْمَطْلُوبُ إلَّا أَنْ يُقَالَ جَانِبُ الْأَقَلِّ حُسْنُ الظَّنِّ وَإِنَّمَا كَانَ سُوءُ الظَّنِّ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى الْهَوَى وَدَوَاعِي الْهَوَى كَالطَّبِيعِيِّ وَخِلَافُهَا كَالْقَسْرِيِّ وَمَا هُوَ طَبِيعِيٌّ أَكْثَرُ أَوْ جَانِبُ الْأَقَلِّ سُوءُ الظَّنِّ الَّذِي طَرِيقُهُ مَا لَيْسَ بِوَهْمٍ وَشَكٍّ بَلْ عِلْمٌ أَوْ ظَنٌّ أَيْضًا كَمَا نَبَّهَ فَافْهَمْهُ (م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ» أَيْ ظَنَّ السُّوءِ الَّذِي لَا دَلِيلَ لَهُ وَلَوْ ظَنًّا وَإِلَّا فَ يَشْكُلُ بِمَا تَقَدَّمَ. وَفِي الْفَيْضِ أَيْ احْذَرُوا سُوءَ الظَّنِّ بِمَنْ لَا يُسَاءُ الظَّنُّ بِهِ مِنْ الْعُدُولِ وَالظَّنُّ تُهْمَةٌ تَقَعُ فِي الْقَلْبِ بِلَا دَلِيلٍ «فَإِنَّ الظَّنَّ» أَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الضَّمِيرِ لِزِيَادَةِ تَمَكُّنٍ فِي ذِكْرِ السَّامِعِ «أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» ؛ لِأَنَّهُ بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَاسْتَشْكَلَ تَسْمِيَةُ الظَّنِّ حَدِيثًا وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ قَوْلًا وَغَيْرَهُ أَوْ مَا يَنْشَأُ عَنْ الظَّنِّ فَوُصِفَ الظَّنُّ بِهِ مَجَازًا قَالَ الْغَزَالِيُّ وَمَنْ حَكَمَ بِشَيْءٍ عَلَى غَيْرِهِ بِالظَّنِّ بَعَثَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى أَنْ يَطُولَ فِيهِ اللِّسَانُ بِالْغِيبَةِ فَيَهْلِكُ أَوْ يُقَصِّرُ فِي الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ أَوْ يَنْظُرُ إلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ وَيَرَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْهُ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ، وَلِذَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلتُّهَمِ ( «وَلَا تَجَسَّسُوا» قَالَ الْمُنَاوِيُّ بِجِيمٍ أَيْ لَا تَتَعَرَّفُوا خَبَرَ النَّاسِ بِلُطْفٍ كَالْجَاسُوسِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ التَّجَسُّسُ أَنْ لَا تَتْرُكَ عِبَادَ اللَّهِ تَحْتَ سَتْرِهَا فَتَتَوَصَّلُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِمْ وَالتَّجَسُّسِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَهَتْكِ السِّتْرِ حَتَّى يَنْكَشِفَ لَك مَا كَانَ مَسْتُورًا عَنْك وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا يَكُونُ طَرِيقًا لِإِنْقَاذِ مُحْتَرَمٍ مِنْ هَلَاكٍ وَنَحْوِهِ كَأَنْ يُخْبِرَ ثِقَةٌ بِأَنَّ فُلَانًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ أَوْ امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا فَجَازَ التَّجَسُّسُ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَاسْتَجَادَهُ ( «وَلَا تَحَسَّسُوا» بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ أَيْ لَا تَطْلُبُوا الشَّيْءَ بِالْحَاسَّةِ كَاسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَإِبْصَارِ الشَّيْءِ خُفْيَةً وَقِيلَ الْأَوَّلُ الْفَحْصُ عَنْ عَوْرَاتِ النَّاسِ وَبَوَاطِنِ