وَلَا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا.

(وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُحْتَسِبِينَ) أَيْ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ لِلِاحْتِسَابِ ذَلِكَ (يُخْطِئُونَ فِي هَذَا) فَيَضْرِبُونَ فَوْقَ حَاجَةِ الضَّرْبِ (فَيُفَرِّطُونَ) يَتَجَاوَزُونَ الْحَدَّ (فِي الْحِسْبَةِ) هُوَ فِي الشَّرِيعَةِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَشْرُوعٍ وَفِي الْعُرْفِ اُخْتُصَّ بِأُمُورٍ كَإِرَاقَةِ الْخُمُورِ وَكَسْرِ الْمَعَازِفِ وَإِصْلَاحِ الشَّوَارِعِ وَالتَّفْصِيلِ فِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ (فَلَا يَفِي خَيْرُهُمْ) فِي الِاحْتِسَابِ (شَرَّهُمْ) كَالضَّرْبِ بِغَيْرِ مُبِيحٍ شَرْعِيٍّ، وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ. وَفِي النِّصَابِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَعُسُّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَاطَّلَعَ مِنْ خَلَلِ بَابٍ فَإِذَا شَيْخٌ بَيْنَ يَدَيْهِ شَرَابٌ وَمُغَنِّيَةٌ تُغَنِّيهِ فَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَا أَقْبَحَ شَيْخًا مِثْلَك، فَقَالَ الرَّجُلُ إنْ عَصَيْت وَاحِدَةً فَقَدْ عَصَيْت فِي ثَلَاثٍ تَجَسَّسْت وَقَدْ نَهَاك اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]- وَتَسَوَّرْت وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] وَدَخَلْت بِغَيْرِ إذْنٍ وَقَالَ {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] ، فَقَالَ عُمَرُ صَدَقْت فَهَلْ أَنْتَ غَافِرٌ لِي، فَقَالَ غَفَرَ اللَّهُ لَك فَخَرَجَ عُمَرُ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ وَيْلٌ لِعُمَرَ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَفِي آخِرِ شَرْحِ الْعَضُدِ لِلْجَلَالِ الدَّوَانِيِّ وَقَعَتْ الْقِصَّةُ بِنَحْوٍ آخَرَ.

(الْمَقَامُ الْخَامِسُ) مِنْ مَقَامَاتِ الْغَضَبِ (فِي الْحِلْمِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ كَظْمَ الْغَيْظِ (تَحَلُّمٌ) تَكَلُّفٌ لِلْحِلْمِ (بَعْدَ هَيَجَانِ الْغَضَبِ مُحْتَاجٌ إلَى مُجَاهِدَةٍ كَثِيرَةٍ) لِقِيَامِ الْغَضَبِ وَلَكِنْ إذَا تَعَوَّدَ ذَلِكَ مُدَّةً صَارَ ذَلِكَ اعْتِيَادًا فَلَا يَكُونُ فِي كَظْمِهِ تَعَبٌ، وَهَذَا طَرِيقُ اكْتِسَابِ الْحِلْمِ كَمَا سَيَجِيءُ (وَالْحِلْمُ) وَهُوَ (عَدَمُ الْهَيَجَانِ) عِنْدَ وُجُودِ مُحَرِّكَاتِ الْغَضَبِ (وَهُوَ) أَيْ الْحِلْمُ (دَالٌّ عَلَى كَمَالِ الْعَقْلِ) لِعَدَمِ غَضَبِهِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ لِكَثْرَةِ إدْرَاكِهِ وَشِدَّةِ تَأَنِّيه فِي اسْتِقْبَالِ الْوَقَائِعِ وَالنَّوَازِلِ وَاصْطِبَارِهِ عَلَيْهَا (وَ) دَالٌّ عَلَى (انْكِسَارِ قُوَّةِ الْغَضَبِ وَخُضُوعِهِ) أَيْ الْغَضَبِ يَعْنِي تَذَلُّلَهُ وَانْقِيَادَهُ (لِلْعَقْلِ) وَلَكِنْ ابْتِدَاؤُهُ التَّحَلُّمُ وَكَظْمُ الْغَيْظِ لِمَا بَيَّنَّا (وَفِيهِ) فِي الْحِلْمِ (ثَلَاثَةُ مَقَاصِدَ) : فِي فَوَائِدِ الْحِلْمِ وَفِي فَوَائِدِ ثَمَرَاتِهِ وَفِي طَرِيقِ تَحْصِيلِ الْحِلْمِ.

(الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ فِي فَوَائِدِ الْحِلْمِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى)

أَيْ رِضَاهُ عَمَّنْ اتَّصَفَ بِهِ (صف) الْأَصْفَهَانِيُّ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «وَجَبَتْ» صَارَتْ كَالْوَاجِبِ فِي عَدَمِ التَّخَلُّفِ أَوْ وُجُوبًا عَادِيًّا «مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ أُغْضِبَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «فَحَلُمَ» فَلَمْ يُؤَاخِذْ مَنْ أَغْضَبَهُ، وَهَذَا فِي الْغَضَبِ لِغَيْرِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ فِي أَسَانِيدِهِ أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ قَدْ وَثَّقَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ كَذَّبَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ ثُمَّ سَاقَ مِنْ أَكَاذِيبِهِ هَذَا الْخَبَرَ وَقَالَ فِي اللِّسَانِ ابْنُ طَاهِرٍ كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ.

(طب)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015