(وَهُوَ حِفْظُ الْعَهْدِ وَعِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى نَقْضِهِ) أَيْ إبْطَالِ الْعَهْدِ (وَجَبَ إيذَانُهُ) أَيْ إعْلَامُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] أَيْ اطْرَحْ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ لِئَلَّا يَكُونُوا عَلَى تَوَهُّمِ بَقَاءِ الْعَهْدِ فَيَكُونَ خِيَانَةً {اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] تَعْلِيلٌ لِنَبْذِ الْعَهْدِ وَعَدَمِ مُفَاجَأَةِ الْقِتَالِ بِلَا إعْلَامٍ.
قِيلَ هُنَا وَمِنْ حِفْظِ الْعُهُودِ الْوَاجِبَةِ حِفْظُ عُهُودِ الْمَشَايِخِ فَمَنْ عَاهَدَ فِي سُلُوكِ طَرِيقِ اللَّهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَهْدِهِ. وَفِي الْفَيْضِ إذَا ظَهَرَ لِلْمُرِيدِ أَنَّ الشَّيْخَ الْآخَرَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فَلَهُ ذَلِكَ وَقَالَ آخَرُونَ لَا كَمَا لَا يَكُونُ الْمُكَلَّفُ بَيْنَ رَسُولَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الشَّرَائِعِ وَالْمَرْأَةُ بَيْنَ زَوْجَيْنِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُرِيدَ تَرْبِيَةٍ فَإِنْ كَانَ مُرِيدَ صُحْبَةِ الْبَرَكَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ الْجَمْعِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ حُكْمِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ يَنْبَغِي لِمَنْ يَخْدُمُ كَبِيرًا كَامِلًا ثُمَّ فَقَدَهُ أَنْ لَا يَصْحَبَ إلَّا مَنْ هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وَإِلَّا جَعَلَ صُحْبَتَهُ مَعَ اللَّهِ كَمَا قِيلَ كُنْ مَعَ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ كُنْ مَعَ مَنْ كَانَ مَعَ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] لَعَلَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ إذْنِ الشَّيْخِ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ عُهُودِ الْمَشَايِخِ بِمُتَارَكَتِهِمْ وَإِيذَائِهِ إلَيْهِمْ بَلْ إلَى مَنْ يُنْسَب إلَيْهِمْ وَتَحْرِيكُ خَاطِرِهِ بِسُوءٍ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا فَإِنَّهُ غَدْرٌ.
(وَمِنْهُ) مِنْ أَشَدِّ الْبَوَاعِثِ (الْخِيَانَةُ وَهُوَ) أَيْ الْخِيَانَةُ قِيلَ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الدَّاءِ وَالْأَوْجَهُ بِمَعْنَى فِعْلِ الْخِيَانَةِ بَلْ بِمَعْنَى السَّبَبِ مِنْ أَسْبَابِ الْغَضَبِ وَيُمْكِنُ أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَا يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ.
(الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (وَهُوَ أَيْضًا حَرَامٌ) كَالْغَدْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ كَمَا فِي حَدِيثِ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إلَى أَنْ قَالَ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ (وَضِدُّهُ) أَيْ ضِدُّ هَذَا الْأَمْرِ (وَهُوَ الْأَمَانَةُ وَاجِبٌ) كَمَا فِي حَدِيثِ «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» (حَدّ) أَحْمَدُ (ز) الْبَزَّارُ (طط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (عَنْ أَنَسِ) بْنِ مَالِكٍ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «قَلَّمَا» قِيلَ بِمَعْنَى مَا النَّافِيَةُ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ مَا الدَّاخِلَةُ كَافَّةً عَنْ الْعَمَلِ فَيَكُونُ لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ. أَقُولُ الْمَقَامُ يَقْتَضِي النَّفْيَ لَكِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى وَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى النَّفْيِ ثُمَّ هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ وَمَا كَافَّةٌ عَنْ طَلَبِ الْفَاعِلِ فَلَا فَاعِلَ لَهُ وَكَذَا طَالَ وَكَثُرَ نَحْوُ قَلَّمَا يَبْرَحُ زَيْدٌ وَطَالَمَا صَحِبْتُك وَكَثُرَ مَا قُلْت كَذَا.
«خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا قَالَ لَا إيمَانَ» كَامِلٌ لَا نَفْيَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ إلَّا بِأَنْ يُرَادَ الِاسْتِحْلَالُ «لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مَنْ أَمَّنَهُ الْخَلْقُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَمَنْ خَانَ وَجَارَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ «وَلَا دِينَ» هُوَ الْخُضُوعُ لِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ وَأَمَانَتِهِ وَالْعَهْدِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ يَوْمَ إقْرَارِهِمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ «لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» قِيلَ عَنْ التَّيْسِيرِ هَذَا وَأَمْثَالُهُ وَعِيدٌ لَا يُرَادُ بِهِ الْوُقُوعُ بَلْ الزَّجْرُ وَالرَّدْعُ وَنَفْيُ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ قَالَ الْحَكِيمُ وَالْعَهْدُ هُوَ تَذْكِرَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ فَنَسِيَهُ الْأَعْدَاءُ وَحَفِظَهُ الْمُوَحِّدُونَ لَكِنْ يَعْتَرِيهِمْ الْغَفْلَةُ فَأَوْفَرُهُمْ حَظًّا مِنْ الْحِفْظِ أَوْفَرُهُمْ حَظًّا مِنْ الذِّكْرِ انْتَهَى قَالَ الْمُظْهِرُ هَذَا لِغَيْرِ الْإِمَامِ.
وَأَمَّا الْإِمَامُ إذَا غَدَرَ مَعَ الْحَرْبِيِّ لِمَصْلَحَةٍ فَجَائِزٌ. أَقُولُ إطْلَاقُهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ كَمَا مَرَّ قَالَ الطِّيبِيُّ فِي الْحَدِيثِ إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ أَسْمَاءٌ مُتَرَادِفَةٌ لِمَفْهُومٍ وَاحِدٍ فَلِمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَخَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِمَعْنًى. وَجَوَابُهُ أَنَّهُمَا وَإِنْ اخْتَلَفَا لَفْظًا فَقَدْ اتَّفَقَا هُنَا مَعْنًى فَإِنَّ الْأَمَانَةَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ بِمَعْنَى التَّكْلِيفَاتِ فَلَازِمُ الْوُجُودِ كَالْأَمَانَةِ فِي لُزُومِ الْأَدَاءِ وَأَنَّ مَعَ الْخَلْقَ فَظَاهِرٌ وَالْعَهْدُ أَنَّ مَعَ اللَّهِ فَاثْنَانِ مَا أَخَذَهُ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ فِي الْأَزَلِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَمَا أَخَذَهُ عِنْدَ هُبُوطِ آدَمَ مِنْ