أَيْ مَيْلُ النَّفْسِ (بِحِكَايَةِ شِدَّةِ الْغَضَبِ مِنْ الْأَكَابِرِ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ) بِالشَّجَاعَةِ وَنَحْوِهَا (وَالنَّفْسُ مَائِلَةٌ إلَى التَّشَبُّهِ بِالْأَكَابِرِ) فَيَهِيجُ الْغَضَبُ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِهِ (وَهَذَا) الْمَذْكُورُ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمَدْحِ بِشِدَّةِ الْغَضَبِ (خَطَأٌ وَجَهْلٌ بَلْ هُوَ مَرَضُ قَلْبٍ وَنُقْصَانُ عَقْلٍ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ أَسْرَعُ غَضَبًا مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ وَالشَّيْخُ مِنْ الْكَهْلِ) لِضَعْفِ قُوَاهُ وَالْكَهْلُ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ يَبْلُغُ ثَلَاثِينَ إلَى خَمْسِينَ فَشَيْخٌ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ.
(وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِهِ (الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ) الْمَعْرُوفُ مَا عُرِفَ شَرْعًا مِنْ وَاجِبٍ وَنَدْبٍ وَالْمُنْكَرُ حَرَامٌ وَمَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا أَوْ تَنْزِيهًا (خُصُوصًا إذَا كَانَ بِالْحِدَّةِ وَالْعُنْفِ وَعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَى الشَّارِعِ وَ) خُصُوصًا (فِي الْمَلَأِ) فُسِّرَ بِأَكَابِرِ الْقَوْمِ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ جَهْرًا فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ (فَيَظُنُّ الْمُخَاطَبُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الْمُتَكَلِّمِ لَا) مِنْ عِنْدِ (الشَّارِعِ وَأَنَّهُ) أَيْ الْآمِرَ (يُرِيدُ بِهِ) بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ (اللَّمْزَ وَالطَّعْنَ لَا النُّصْحَ فَيَغْضَبُ لِجَهْلِهِ) بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إذْ الْعَالِمُ يَعْرِفُهُ وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُ إلَى الشَّارِعِ وَيَعْرِفُ أَنَّهُ النُّصْحُ فَلَا اشْتِبَاهَ فِي حَقِّهِ فَلَا غَضَبَ (وَعِلَاجُهُ) عِلَاجُ هَذَا السَّبَبِ وَالْبَاعِثِ (التَّكَلُّمُ بِاللِّينِ وَالرِّفْقِ) وَهُوَ الْعُمْدَةُ فِي الْحِسْبَةِ. قِيلَ وَعَظَ الْمَأْمُونُ وَاعِظٌ فَعَنَّفَ، فَقَالَ يَا رَجُلُ أَرْفِقْ فَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك إلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي فَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ، فَقَالَ تَعَالَى {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا} [طه: 44] الْآيَةَ. وَفِي نِصَابِ الِاحْتِسَابِ أَنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خَرَجَا إلَى الصَّحْرَاءِ فَرَأَيَا شَيْخًا يَتَوَضَّأُ وَلَا يُحْسِنُ الْوُضُوءَ، فَقَالَا مَعَ أَنْفُسِهِمَا إنَّهُ شَيْخٌ فَكَيْفَ نَقُولُ لَهُ إنَّك لَا تَعْلَمُ الْوُضُوءَ لَعَلَّهُ يَغْضَبُ فَاتَّفَقَا أَنْ يَجِيئَا إلَيْهِ فَيُعَلِّمَاهُ الْوُضُوءَ فَدَنَوْا مِنْهُ وَقَالَا يَا شَيْخُ اُنْظُرْ إلَيْنَا أَيُّنَا أَحْسَنُ عِلْمًا بِالْوُضُوءِ فَتَوَضَّآ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِمَا، فَقَالَ إنَّكُمَا تُحْسِنَانِ الْوُضُوءَ وَلَكِنَّنِي لَا أُحْسِنُهُ فَتَعَلَّمْت مِنْكُمَا هَذَا لِلْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْ الْآمِرِ وَإِنْ وَكَانَ مِثْلَهُ فَيُشْفِقُ وَيَرْفُقُ بِهِ ثُمَّ يَأْمُرُهُ وَإِنْ أَصْغَرَ يُضَيِّفُهُ وَيُحْسِنُ إلَيْهِ ثُمَّ يَأْمُرُهُ حُكِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَضَافَ مِائَتَيْ مَجُوسِيٍّ فَلَمَّا أَكَلُوا الطَّعَامَ قَالُوا لَهُ مَا تَأْمُرُنَا يَا إبْرَاهِيمُ قَالَ إنَّ لِي إلَيْكُمْ حَاجَةً، فَقَالُوا مَا حَاجَتُك، فَقَالَ اُسْجُدُوا لِرَبِّي مَرَّةً وَاحِدَةً فَتَشَاوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالُوا إنَّ هَذَا الرَّجُلَ اصْطَنَعَ مَعْرُوفًا كَثِيرًا فَلَوْ سَجَدْنَا لِرَبِّهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ رَجَعْنَا إلَى آلِهَتِنَا لَا تَضُرُّ تِلْكَ السَّجْدَةُ فَسَجَدُوا جَمِيعًا فَلَمَّا وَضَعُوا رُءُوسَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ نَاجَى رَبَّهُ، فَقَالَ رَبِّ إنِّي جَهَدْت جَهْدِي حَتَّى حَمَلْتهمْ عَلَى هَذَا وَلَا طَاقَةَ لِي فَوْقَ هَذَا، وَإِنَّمَا التَّوْفِيقُ بِيَدِك اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُورَهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَأَسْلَمُوا جَمِيعًا (وَالْإِضَافَةُ إلَى الشَّارِعِ وَفِي السِّرِّ إنْ أَمْكَنَ) بِأَنْ عَزَمَ عَلَى فِعْلٍ مُنْكَرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا إذَا بَاشَرَ بِالْفِعْلِ فَلَا يُمْكِنُ التَّكَلُّمُ حِينَئِذٍ سِرًّا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّكَلُّمِ جَهْرًا بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ قَالَ فِي النِّصَابِ يَنْبَغِي لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَأْمُرَ فِي السِّرِّ إنْ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالنَّصِيحَةِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ فِي الْعَلَانِيَةِ فَقَدْ شَانَهُ وَمَنْ وَعَظَهُ فِي السِّرِّ فَقَدْ زَانَهُ وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْهُ الْمَوْعِظَةُ فِي السِّرِّ يَأْمُرُهُ بِالْعَلَانِيَةِ (وَتَعَلُّمُ الشَّرَائِعِ) عَطْفٌ عَلَى التَّكَلُّمِ لِيَزُولَ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ الْمُتَكَلِّمِ (وَأَمَّا إذَا غَضِبَ مَعَ الْعِلْمِ) بِالشَّرَائِعِ (فَمِنْ الرِّيَاءِ أَوْ الْكِبْرِ أَوْ الْعُجْبِ وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ أَشَدِّ بَوَاعِثِهِ (الظَّنُّ الْخَطَأُ) لِعَدَمِ مُطَابَقَته لِلْوَاقِعِ