قَالَ هَلْ لَك مِنْ حَاجَةٍ فَتَقْضِيَهَا فَنَكَسَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ وَاسْتَحْيَا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ سَبَّهُ رَجُلٌ فَرَمَى إلَيْهِ قَمِيصَهُ وَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَرَّ الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ، فَقَالُوا لَهُ شَرًّا، فَقَالَهُمْ خَيْرًا فَقِيلَ لَهُ إنَّهُمْ يَقُولُونَ شَرًّا وَأَنْتَ تَقُولُ خَيْرًا، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ يُنْفِقُ مِمَّا عِنْدَهُ. وَفِي الْحِلْمِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ السُّرُورُ فِي نَفْسِهِ وَالْمَحْمَدَةُ عِنْدَ النَّاسِ وَالثَّوَابُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (هَذِهِ الْفَوَائِدُ) السَّبْعُ لِكَظْمِ الْغَيْظِ (لِمُجَرَّدِ الْكَظْمِ) بِلَا انْضِمَامِ الْعَفْوِ (وَأَمَّا إذَا عَفَا مَعَهُ) أَيْ مَعَ الْكَظْمِ (فَأَكْثَرُ) فَوَائِدَ (وَأَعْظَمُ) عَوَائِدَ لَا يَخْفَى أَنَّ إطْلَاقَهُ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ يَظْهَرُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْآيَةِ فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى كَمَا فِي الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ فَتَأَمَّلْ. وَبِمَا قَدْ سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ «إنَّ أَفْضَلَ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك وَتُحْسِنَ إلَى مَنْ أَسَاءَ إلَيْك» وَغَيْرِهِ (فَإِنَّك إذَا عَفَوْت مَعَ عَجْزِك) لَيْسَ هَذَا الْعَجْزُ مَا يُقَابِلُ عَفْوَ الْقَادِرِ كَمَا سَبَقَ بَلْ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُؤَثِّرِ الْحَقِيقِيِّ (وَاحْتِيَاجِك) هَذَا إنَّمَا يَظْهَرُ فِي عَفْوِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَأَمَّا الْبَدَنِيَّةُ وَالْعَرْضِيَّةُ فَلَا إلَّا بِتَحَمُّلٍ وَاتِّسَاعٍ (فَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْلَى أَنْ يَعْفُوَ) عَنْك (مَعَ قُدْرَتِهِ وَغِنَاهُ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا تَظْهَرُ هَذِهِ الْأَكْثَرِيَّةُ وَالْأَعْظَمِيَّةُ بِتَطْبِيقِ أَدِلَّةِ الْعَفْوِ وَالْكَظْمِ بَلْ الْأَكْثَرِيَّةُ فِي جَانِبِ الْكَظْمِ كَمَا يَظْهَرُ بِالرُّجُوعِ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَطْلَبِ الشَّرْعِيِّ إنَّمَا هُوَ بِالنَّقْلِ لَا بِالرَّأْيِ وَالْعَقْلِ فَإِنَّ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ إثْبَاتَ الْمَطْلَبِ النَّقْلِيِّ بِالْعَقْلِ كَالْعَكْسِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَقِيَاسِ الشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ إجْرَاءُ هَذَا الدَّلِيلِ فِي كَظْمِ الْغَيْطِ أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ. فِي أَدِلَّةِ الْعَفْوِ ثُبُوتًا وَدَلَالَةً حَقَّ التَّأَمُّلِ حَتَّى تَظْهَرَ حَقِيقَةُ مَطْلُوبِ الْمُصَنِّفِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِغَرَضِ الْمُصَنِّفِ فَافْهَمْ (وَيَدُلُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْكَثْرَةِ وَالْعَظَمِ (قَوْله تَعَالَى - {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] هَذَا كَمَا تَرَى فَافْهَمْ لَعَلَّ الْأَوْلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهَا فَضَائِلُ مُسْتَقِلَّةٌ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَجْمُوعَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَالْأَوَّلُ أَيْضًا أَنْ يُكْتَفَى بِمَا قَبْلَ قَوْلِهِ فَإِنَّك إذَا عَفَوْت إذْ الْمَطْلُوبُ هُوَ الْعَفْوُ مَعَ الْكَظْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَظْمِ وَالدَّلِيلُ كَمَا تَرَى.
(الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي الْعِلَاجِ الْعَمَلِيِّ) لِلْغَضَبِ (بَعْدَ الْهَيَجَانِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ. الْأَوَّلُ التَّوَضُّؤُ) (د) أَبُو دَاوُد (عَنْ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ» مِنْ وَسْوَسَتِهِ «وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ» كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] وَقَالَ - {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27]- وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ الْجَانِّ. وَعَنْ وَهْبٍ تَزَوَّجَ مَارِجٌ مَارِجَةً فَتَوَلَّدَ مِنْهُمَا الْجِنُّ فَمِنْهُ تَفَرَّعَ قَبَائِلُ الْجِنِّ وَمِنْهُمْ إبْلِيسُ فَتَكْثُرُوا عَدَدَ الرَّمْلِ وَكَذَا تَكْثُرُ أَوْلَادُ إبْلِيسَ إلَى أَنْ امْتَلَأَتْ الْأَقْطَارُ فَأُسْكِنَ الْجَانُّ فِي الْهَوَاءِ وَإِبْلِيسُ مَعَ أَوْلَادِهِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَأَمَرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ وَافْتَخَرَتْ السَّمَاءُ بِرِفْعَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْعِبَادِ فَشَكَتْ الْأَرْضُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهَا بِأَنَّى خَالِقٌ مِنْك صُورَةً أَرْزُقُهَا الْعَقْلَ وَالْعِلْمَ وَاللِّسَانَ، وَأُنْزِلَ إلَيْهَا الْقُرْآنُ فَاسْتَقَرَّتْ الْأَرْضُ فَهِيَ حِينَئِذٍ بَيَاضٌ كَالْفِضَّةِ فَأُنْزِلَ الْجَانُّ عَلَى الْأَرْضِ لِطَلَبِهَا بِشَرْطِ الْعِبَادَةِ فَنَزَلُوا دَهْرًا طَوِيلًا ثُمَّ أُخِذُوا بِالْمَعَاصِي وَاسْتَغَاثَتْ الْأَرْضُ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهَا أَنْ اُسْكُتِي فَأَنَا بَاعِثٌ إلَيْهِمْ رُسُلًا فَبَعَثَ اللَّهُ ثَمَانِمِائَةِ نَبِيٍّ مِنْ الْجِنِّ فِي ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ فَقَتَلُوا الْكُلَّ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إبْلِيسَ وَأَنْزَلَهُ مَعَ الْجِنِّ فَتَقَاتَلُوا مَعَ الْجَانِّ فَهَرَبُوا إلَى بُقْعَةٍ مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ سَكَنَ إبْلِيسُ فِي الْأَرْضِ وَعَبَدَ اللَّهَ إلَى أَنْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَكَانَ ذَا مَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ ثُمَّ اُبْتُلِيَ مِنْ كِبْرِهِ وَعُجْبِهِ بِمَا اُبْتُلِيَ الْعِيَاذُ بِهِ تَعَالَى.
«وَإِنَّمَا تُطْفَأُ» أَيْ تَخْمَدُ «النَّارُ بِالْمَاءِ» ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهَا؛ لِأَنَّ طَبْعَ النَّارِ حَارٌّ