دَرَجَةً لِحَبْسِ نَفْسِهِ عَنْ التَّشَفِّي وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْعِظَمُ إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِقَامِ وَبِكَفِّ غَضَبِهِ لِلَّهِ تَعَالَى (ابْتِغَاءُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى) .
(وَالْخَامِسُ حِفْظُ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ) مِنْ الْمِحَنِ وَالْخِزْيِ وَالْبَلْوَى فِي الدُّنْيَا وَمِنْ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ.
(وَالسَّادِسُ رَحْمَتُهُ لَهُ وَالسَّابِعُ مَحَبَّتُهُ إيَّاهُ) دَلِيلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَا خَرَّجَ (حك) الْحَاكِمُ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ» خِصَالٍ «مَنْ كُنَّ فِيهِ» أَيْ وُجِدْنَ بِإِيجَادِهِ تَعَالَى «آوَاهُ» أَسْكَنَهُ «اللَّهُ تَعَالَى فِي كَنَفِهِ» بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى الْجَانِبِ أَيْ أَدْخَلَهُ فِي حِمَايَتِهِ وَحِفْظِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ «وَسَتَرَ عَلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ وَأَدْخَلَهُ فِي مَحَبَّتِهِ» جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَحِبَّائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ «مَنْ إذَا أُعْطِيَ» لَهُ نِعْمَةً «شَكَرَ» بِلِسَانِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ أَوْ بِأَرْكَانِهِ؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ إلَى مَا خُلِقَ لَهُ «وَإِذَا قَدَرَ» عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى غَضَبِهِ أَوْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ وَأَسَاءَ إلَيْهِ «غَفَرَ» أَيْ عَفَا كَمَا فِي حَدِيثِ «وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَك» «وَإِذَا غَضِبَ فَتَرَ» مِنْ الْفُتُورِ وَالضَّعْفِ كِنَايَةٌ عَنْ الْإِزَالَةِ هَذِهِ السَّبْعُ عَلَى اسْتِقْرَاءِ الْمُصَنِّفِ وَإِلَّا فَمِنْ فَوَائِدِهِ مِلْءُ الْجَوْفِ بِالْإِيمَانِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إلَّا مَلَأَ اللَّهُ جَوْفَهُ إيمَانًا وَمَلَأَ الْقَلْبَ بِالْأَمْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إنْفَاذِهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا» وَسَتَرَ الْعَوْرَةَ كَمَا فِيهِ أَيْضًا «مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ» . وَالْأَجْمَلِيَّةُ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَأَجْمَلُكُمْ مَنْ غَفَرَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ وَمَلَأَ الْقَلْبَ بِالرِّضَا» كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا» وَتَقْوَى اللَّه تَعَالَى فِي الْإِحْيَاءِ عَنْ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ اتَّقَى اللَّهَ لَمْ يَتَشَفَّ غَيْظَهُ وَمَنْ خَافَ اللَّهَ لَمْ يَفْعَلْ مَا يُرِيدُ.
قَالَ الْمُحَشِّي هُنَا اعْلَمْ أَنَّ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ الْحِلْمُ أَيْ عَدَمُ الْغَضَبِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِهِ ثُمَّ الْعَفْوُ مَعَ الْكَظْمِ ثُمَّ الْكَظْمُ بِدُونِ الْعَفْوِ أَيْ عَدَمُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْغَضَبِ فِي الْحَالِ بَلْ بَعْدَ سَاعَةٍ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ انْتَهَى.
قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ الْحِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ أَغْنِنِي بِالْعِلْمِ وَزَيِّنِّي بِالْحِلْمِ وَأَكْرِمْنِي بِالتَّقْوَى وَجَمِّلْنِي بِالْعَافِيَةِ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «ابْتَغُوا الرِّفْقَ عِنْدَ اللَّهِ قَالُوا وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تَصِلُ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِي مَنْ مَنَعَك وَتَحْلُمُ عَلَى مَنْ جَهِلَ عَلَيْك» . وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ لِيُدْرِكَ بِالْحِلْمِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَعَنْ عَطَاءٍ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا أَيْ حِلْمًا وَعَنْ ابْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَكَهْلًا أَيْ مُنْتَهَى الْحِلْمِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ مَرُّوا كِرَامًا أَيْ إذَا أُوذُوا صَفَحُوا وَفِي حَدِيثِ أَبُو عَبَّاسٍ «ثَلَاثٌ مَنْ لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ فِيهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ تَقْوَى تَحْجُرُهُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَحِلْمٌ يَكُفُّ بِهِ السَّفِيهَ وَخُلُقٌ يَعِيشُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ» وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ أَهْلُ الْفَضْلِ فَيَقُومُ نَاسٌ يَسِيرُونَ فَيَنْطَلِقُونَ سِرَاعًا إلَى الْجَنَّةِ فَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَتَقُولُ لَهُمْ مَا لَنَا نَرَاكُمْ سِرَاعًا فَيَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ الْفَضْلِ فَيَقُولُونَ مَا كَانَ فَضْلُكُمْ فَيَقُولُونَ كُنَّا إذَا ظُلِمْنَا صَبَرْنَا وَإِذَا أُسِيءَ إلَيْنَا غَفَرْنَا وَإِذَا جُهِلَ عَلَيْنَا حَلُمْنَا فَيَقُولُونَ لَهُمْ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّ أَوَّلَ مَا عُوِّضَ الْحَلِيمُ عَنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَعْوَانُهُ عَلَى الْجَاهِلِ وَقَالَ أَنَسٌ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] إلَى قَوْلِهِ {عَظِيمٍ} [فصلت: 35]- قَالَ هُوَ الَّذِي يَشْتُمُهُ أَخُوهُ فَيَقُولُ لَهُ إنْ كُنْت كَاذِبًا غَفَرَ اللَّهُ لَك وَإِنْ كُنْت صَادِقًا غَفَرَ اللَّهُ لِي وَسَبَّ رَجُلٌ ابْنِ عَبَّاسٍ