آخِرُهُ {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] أَيْ التَّارِكِينَ عُقُوبَةَ مَنْ اسْتَحَقُّوا عُقُوبَتَهُ. وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ هَؤُلَاءِ قَلِيلٌ إلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَقَدْ كَانُوا كَثِيرًا فِي الْأُمَمِ الَّتِي مَضَتْ ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ إنَّمَا هِيَ بِمُلَاحَظَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ يَعْنِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 133 - 134]- الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ مَيْمُونٍ أَنَّ جَارِيَتَهُ جَاءَتْ بِمَرَقَةٍ فَعَثَرَتْ فَصَبَّتْ الْمَرَقَةَ عَلَيْهِ فَأَرَادَ مَيْمُونٌ أَنْ يَضْرِبَهَا، فَقَالَتْ يَا مَوْلَايَ اسْتَعْمِلْ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] قَالَ فَعَلْت، فَقَالَتْ اعْمَلْ بِمَا بَعْدَهُ {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] قَالَ عَفَوْت، فَقَالَتْ الْجَارِيَةُ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] قَالَ مَيْمُونٌ أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَفِي نَحْوِ هَذَا قَالَ الشَّاعِرُ
إذَا اعْتَذَرَ الصَّدِيقُ إلَيْك عُذْرًا ... تَجَاوَزْ عَنْ مَعَاصِيهِ الْكَثِيرَهْ
فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى حَدِيثًا ... بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُغِيرَهْ
بِأَنْ قَالَ الرَّسُولُ يَقْبَلُ رَبِّي ... بِعُذْرٍ وَاحِدٍ أَلْفَيْ خَطِيرَهْ
لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْكَظْمِ لَا يَكُونُ مُعَدًّا لِلْجَنَّةِ بَلْ بِانْضِمَامِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَعْنِي الْعَفْوَ وَالْإِنْفَاقَ إذْ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ وَخَاصٌّ بِهِ إلَّا أَنْ يُرَادَ مِنْ الْإِعْدَادِ مُطْلَقُهُ فَيَشْتَمِلُ عَلَى مَا فِيهِ مَدْخَلٌ سِيَّمَا بِالْجُزْئِيَّةِ وَحَمْلُ الْوَاوَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَوْ صَرْفٌ عَنْ الظَّاهِرِ، وَالنُّصُوصُ عِنْدَنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الظَّاهِرِ بِلَا صَارِفٍ قَطْعِيٍّ.
(وَالثَّانِي) مِنْ الْفَوَائِدِ (التَّخْيِيرُ فِي الْحُورِ الْعِينِ) فِي الْبَهَاءِ وَالْحُسْنِ وَيَحْتَمِلُ فِي الْمِقْدَارِ وَالْعَدَدِ (د) أَبُو دَاوُد (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا» أَيْ أَمْسَكَ وَكَفَّ عَنْ إمْضَائِهِ «وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِذَهُ» أَيْ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ «دَعَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ» ؛ لِأَنَّهُ قَهَرَ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ فِي مِثْلِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ وَالْمُجَازَاةِ بِالْإِسَاءَةِ، وَلِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ آدَابِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمِنْ ثَمَّةَ «خَدَمَ أَنَسٌ الْمُصْطَفَى عَشْرَ سِنِينَ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ فِي شَيْءٍ فَعَلَهُ لِمَ فَعَلْته وَلَا فِي شَيْءٍ تَرَكَهُ لِمَ تَرَكْته» «حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ» فَيَخْتَارُ مَا شَاءَ مِنْهُنَّ تَدَبَّرْ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذٍ «حَتَّى يُزَوِّجَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ» وَفِيهِ أَيْضًا فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إنْفَاذِهِ زَوَّجَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْحُورِ الْعِينِ. يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ تَرَكَ ثَوْبَ جَمَالٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى لُبْسِهِ كَسَاهُ اللَّهُ تَعَالَى رِدَاءَ الْإِيمَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ أَنْكَحَ عَبْدًا وَضَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَأْسِهِ تَاجَ الْمُلْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» كَذَا فِي الْفَيْضِ.
(وَالثَّالِثُ دَفْعُ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى) (طس) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ دَفَعَ غَضَبَهُ» حَالَ الِاسْتِطَاعَةِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ «دَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَذَابَهُ» مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى كَظْمِ غَيْظِهِ وَقَهْرِ نَفْسِهِ قَالَ فِي الْفَيْضِ ضَعَّفَهُ الْمُنْذِرِيُّ. وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ فِيهِ عَبْدُ السَّلَامِ وَهُوَ ضَعِيفٌ دَلَالَةُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ دَفْعُ الْغَضَبِ عَيْنَ كَظْمِ الْغَيْظِ أَوْ مُسْتَلْزِمًا لَهُ.
(وَالرَّابِعُ عِظَمُ الْأَجْرِ) (مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ جَرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ» مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّنْفِيذِ شَبَّهَ جَرْعَ غَيْظِهِ وَرَدَّهُ إلَى بَاطِنِهِ بِتَجَرُّعِ الْمَاءِ وَهِيَ أَحَبُّ جَرْعَةً يَتَجَرَّعُهَا الْعَبْدُ وَأَعْظَمُهَا ثَوَابًا وَأَرْفَعُهَا