يَبْدَءُونَهُمْ بِالْإِضْرَارِ وَيَطْلُبُونَ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ تَجَبُّرًا عَلَيْهِمْ {وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] أَيْ يَتَكَبَّرُونَ فِيهَا تَجَبُّرًا وَفَسَادًا {أُولَئِكَ} [الشورى: 42] الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42] عَلَى ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ {وَلَمَنْ صَبَرَ} [الشورى: 43] عَلَى الْأَذَى {وَغَفَرَ} [الشورى: 43] لِمَنْ ظَلَمَهُ وَلَمْ يَنْتَصِرْ أَوْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ ذَلِكَ} [الشورى: 43] الَّذِي ذُكِرَ مِنْ الصَّبْرِ وَالْمَغْفِرَةِ {لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] أَيْ مِنْ مَعْزُومَاتِهَا الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} [المائدة: 8] أَيْ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ {شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 8] أَيْ شِدَّةُ بُغْضِكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ {عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] أَيْ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ بِالْمُثْلَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ بَلْ الْتَزِمُوا الْعَدْلَ مَعَ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ. وَجْهُ الِاسْتِشْهَادِ مُفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ يَعْنِي لَيْسَ بَعْدَ الِاقْتِصَاصِ شَيْءٌ آخَرُ وَمِنْ قَوْلِهِ وَيَبْغُونَ إلَى آخِرِهِ وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنْ لَا تَعْدِلُوا فَتَأَمَّلْ.
قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ «قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ لَقِيت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَا عُقْبَةُ أَلَا أُخْبِرُك بِأَفْضَلِ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَصِلُ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَك» .
قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ أَيُّ عِبَادِك أَعَزُّ عَلَيْك قَالَ الَّذِي إذَا قَدَرَ عَفَا، وَلِذَلِكَ سُئِلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَنْ أَعَزُّ النَّاسِ قَالَ الَّذِي يَعْفُو إذَا قَدَرَ اُعْفُوا يُعِزَّكُمْ اللَّهُ. وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ دَعَا عَلَى ظَالِمٍ فَقَدْ انْتَصَرَ.
وَعَنْ جَابِرٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثَلَاثٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إيمَانٍ دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ وَزُوِّجَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ حَيْثُ شَاءَ مَنْ أَدَّى حَقًّا وَقَرَأَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] عَشْرَ مَرَّاتٍ وَعَفَا عَنْ قَاتِلِهِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْ إحْدَاهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَوْ إحْدَاهُنَّ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُغْضِبَ عَبْدًا قَيَّضَ لَهُ مَنْ يَظْلِمُهُ. وَقِيلَ إنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَكِنْ أُعْطِيَ مَا أُعْطِيَ بِأَرْبَعٍ إذَا قَدَرَ عَفَا وَإِذَا وَعَدَ وَفَّى وَإِذَا حَدَّثَ صَدَقَ وَلَا يَجْمَعُ الْيَوْمَ لِغَدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الذَّنْبُ عَظِيمًا ازْدَادَ الْعَفْوُ فَضْلًا. وَرُوِيَ أَنَّ زِيَادًا قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ الْخَوَارِجِ إنْ جِئْت بِأَخِيك وَإِلَّا أَضْرِبُ عُنُقَك، فَقَالَ أَرَأَيْت إنْ جِئْتُك بِكِتَابٍ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ تُخَلِّي سَبِيلِي قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنْ أَتَيْتُك بِكِتَابٍ مِنْ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَأُقِيمُ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَتَلَا {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [النجم: 36] {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]-، فَقَالَ زِيَادٌ خَلُّوا سَبِيلَهُ وَقَالَ هَذَا رَجُلٌ لُقِّنَ حُجَّتَهُ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ أَتَيْنَا مَنْزِلَ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ لَيْلًا وَجَاءَ الْحَسَنُ وَهُوَ خَائِفٌ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ مَعَ الْحَسَنِ فَذَكَرَ الْحَسَنُ قِصَّةَ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَا فَعَلَ مَعَهُ إخْوَتُهُ مِنْ مَنْعِهِمْ لَهُ وَطَرْحِهِمْ لَهُ فِي الْجُبِّ، فَقَالَ بَاعُوا أَخَاهُمْ وَأَحْزَنُوا أَبَاهُمْ، وَذَكَرَ مَا لَقِيَ مِنْ كَيْدِ النِّسَاءِ وَمِنْ الْحَبْسِ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ مَاذَا صَنَعَ اللَّهُ إذَنْ لَهُ رَفَعَ ذِكْرَهُ وَأَعْلَى كَعْبَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَمَاذَا صَنَعَ حِينَ أَكْمَلَ لَهُ أَمْرَهُ وَجَمَعَ لَهُ أَهْلَهُ قَالَ {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92] فَعَرَضَ بِالْحِلْمِ وَالْعَفْوِ عَنْ أَصْحَابِهِ قَالَ الْحَكَمُ وَأَنَا أَقُولُ {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] .
(الْمَقَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي غَوَائِلِهِ) أَيْ الْحِقْدِ (وَهِيَ إحْدَى عَشَرَ) . أَوَّلُهَا حَسَدٌ.
ثَانِيهَا: شَمَاتَةٌ.
ثَالِثُهَا: هَجْرٌ.
رَابِعُهَا: اسْتِصْغَارٌ.
خَامِسُهَا: كَذِبٌ.
سَادِسُهَا: غِيبَةٌ.
سَابِعُهَا: إفْشَاءُ سِرٍّ.
ثَامِنُهَا: اسْتِهْزَاءٌ.
تَاسِعُهَا: إيذَاءٌ.
عَاشِرُهَا: مَنْعُ حَقٍّ.
حَادِي عَشَرَ: هُنَا مَنْعُ مَغْفِرَةٍ.
(الْأَوَّلُ الْحَسَدُ وَالثَّانِي الشَّمَاتَةُ بِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْبَلَايَا أَيْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالضَّحِكِ بِهِ وَهِيَ) الشَّمَاتَةُ.
(السَّابِعَ عَشَرَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (ت) التِّرْمِذِيُّ قَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ (وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ» أَيْ السُّرُورَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُصِيبَةِ «بِأَخِيك فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى» حَيْثُ زَكَّيْت نَفْسَك وَرَفَعْت مَنْزِلَتَك وَشَمَخْت بِنَفْسِك وَشَمَتَ بِهِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى» بَدَلَ «فَيُعَافِيَهُ» «وَيَبْتَلِيَكَ» ، وَهَذَا مَعْدُودٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ
(تَنْبِيهٌ)
أَخَذَ قَوْمٌ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ فِي الشَّمَاتَةِ بِالْعَدُوِّ غَايَةً فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ نَعَمْ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّهُ لَا مَلَامَ بِالْفَرَحِ بِمَوْتِ الْعَدُوِّ وَمِنْ حَيْثُ انْقِطَاعُ شَرِّهِ عَنْهُ وَكِفَايَةُ ضَرَرِهِ كَمَا فِي الْفَيْضِ ثُمَّ إنَّهُ قِيلَ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعِ