وَالِانْتِقَامِ وَالِاسْتِرْسَالِ بِالْكِبْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ نَتَائِجِ الشَّيْطَنَةِ فَأَرَادَ الشَّارِعُ أَنْ يُقْلِعَهَا فَحَثَّ أَوَّلًا عَلَى الصَّدَقَةِ لِيَتَحَلَّى بِالسَّخَاءِ وَالْكَرَمِ. وَثَانِيًا عَلَى الْعَفْوِ لِيَتَعَزَّزَ بِالْحُكْمِ وَالْكَرَمِ. وَثَالِثًا عَلَى التَّوَاضُعِ لِيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ الْعَفْوَ سَبَبٌ لِعِزَّةِ الدَّارَيْنِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْفَضْلِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَفْضَلِيَّةُ الْعَفْوِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ وَالْآيَاتِ وَالْحَدِيثُ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذْ الْمُطْلَقُ سَاكِتٌ وَالْمُقَيَّدُ نَاطِقٌ وَأَنَّ الْمُطْلَقَ عَامٌّ وَالْعَامَّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْخَاصِّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ أَنْ يَدَّعِيَ حُصُولَ الْمُسَوَّرَةِ الْكُلِّيَّةِ مِنْهَا فَالْمَطْلُوبُ حَاصِلٌ بِطَرِيقِ ضَمِّ صُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ أَوْ الْمَقَامُ ظَنِّيٌّ وَظَنُّ الْمَطْلُوبِ مِنْهَا ظَاهِرٌ. (وَإِنْ قَدَرَ) عَلَى أَخْذِهِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ (فَلَهُ الْعَفْوُ أَيْضًا) كَمَا إذَا لَمْ يَقْدِرْ (وَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الْعَفْوِ الْأَوَّلِ) أَيْ الْعَفْوِ مَعَ الْعَجْزِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ لِعَجْزِ ذَلِكَ عَنْ الْأَخْذِ حَالًا وَأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى رِوَايَةِ مُعَاذٍ عَنْ تَخْرِيجِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَصْفَحَ عَمَّنْ ظَلَمَك.
قَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ فَكَانَ أَفْضَلَ. أَقُولُ هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِكِلَا النَّوْعَيْنِ فَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ أَوْ وَقَفَ عَلَى مَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ أَنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ فَتَأَمَّلْ.
قَالَ الرَّاغِبُ فَالْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَك نِهَايَةُ الْحِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ وَإِعْطَاءِ مَنْ حَرَمَك نِهَايَةُ الْإِحْسَانِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ قَابَلَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ فَهُوَ أَكْمَلُ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِقَصْرِ وَصْفِ الْإِنْسَانِيَّةِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ ادِّعَاءً وَمُبَالَغَةً وَمِنْ ثَمَرَاتِ هَذَا الْخُلُقِ صَيْرُورَةُ الْعَدُوِّ خَلِيلًا أَوْ صَيْرُورَتُهُ قَتِيلًا وَيُنَكَّلُ بِسِهَامِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ تَنْكِيلًا.
قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ رَأَيْت فِي الْإِنْجِيلِ قَالَ عِيسَى لَقَدْ قِيلَ لَكُمْ مِنْ قَبْلُ إنَّ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالْآنَ أَقُولُ لَكُمْ لَا تَقَابَلُوا الشَّرَّ بِالشَّرِّ مَنْ ضَرَبَ خَدَّك الْأَيْمَنَ فَحَوِّلْ إلَيْهِ الْأَيْسَرَ وَمَنْ أَخَذَ رِدَاءَك فَأَعْطِهِ إزَارَك.
(تَنْبِيهٌ)
قَالَ بَعْضُهُمْ رَأَى ابْنُ الْحَطَّابِ شَيْخُ ابْنِ عَرَبِيٍّ رَبَّهُ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا آخُذُهُ عَنْك بِلَا وَاسِطَةٍ، فَقَالَ يَا ابْنَ الْحَطَّابِ مَنْ أَحْسَنَ إلَى مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ فَقَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ شُكْرًا وَمَنْ أَسَاءَ إلَى مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ فَقَدْ بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا، فَقَالَ يَا رَبِّ حَسْبِي، فَقَالَ حَسْبُك كَذَا فِي الْفَيْضِ (وَ) مِنْ (الِانْتِصَارِ أَيْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَهُوَ) أَيْ الِانْتِصَارُ (الْعَدْلُ الْمَفْضُولُ) وَقَدْ عَرَفْت قَرِيبًا مَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ أَنَّ الْعَدْلَ مُنْتَهَى دَرَجَاتِ الصَّالِحِينَ وَالْفَضْلَ إحْسَانُ الصِّدِّيقِينَ هَذَا إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَطَبْعُهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ (لَكِنْ قَدْ يَكُونُ) الْعَدْلُ (أَفْضَلَ مِنْ الْعَفْوِ بِعَارِضٍ) مُوجِبٍ لِذَلِكَ (مِثْلِ كَوْنِ الْعَفْوِ سَبَبًا لِتَكْثِيرِ ظُلْمِهِ) لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ عَدَمَ الِانْتِقَامِ مِنْهُ لِلْعَجْزِ (وَ) كَوْنُ (الِانْتِصَارِ) سَبَبًا (لِتَقْلِيلِهِ أَوْ هَدْمِهِ) إذَا كَانَ الْحَقُّ قِصَاصًا مَثَلًا (أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ الْعَوَارِضِ مِثْلِ كَوْنِهِ عِبْرَةً لِلْغَيْرِ لَعَلَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا اقْتَصَّ وَرَثَةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَاتِلِهِ ابْنِ مُلْجِمٍ بَعْدَمَا أَوْصَى بِالْعَفْوِ حَيْثُ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجِمٍ وَحُمِلَ إلَى مَنْزِلِهِ أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ وَالْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَغَدًا مُفَارِقُكُمْ إنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ وَهُوَ حَسَنَةٌ لَكُمْ فَاعْفُوا {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] وَاَللَّهُ مَا فَجَأَنِي مِنْ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْته وَلَا طَالِعٌ أَنْكَرْته {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198] (وَإِنْ زَادَ) عَلَى حَقِّهِ.
(فَجَوْرٌ وَظُلْمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِي سُورَةِ الشُّورَى {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41] أَيْ اقْتَصَّ {فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] إلَى الْأُمُورِ) بِالْمُعَاتَبَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42]