لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سَأَلَ جَبْرَائِيلَ عَنْ تَأْوِيلِهَا، فَقَالَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ. ثُمَّ ذَهَبَ وَأَتَاهُ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك» وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَزِيدُ عَلَى كَثْرَةِ الْأَذَى إلَّا صَبْرًا وَعَلَى إسْرَافِ الْجَاهِلِ إلَّا حِلْمًا أَيْ عَفْوًا.
وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ شَدِيدًا وَقَالُوا لَوْ دَعَوْت عَلَيْهِمْ، فَقَالَ إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَلَكِنْ بُعِثْت دَاعِيًا وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» اُنْظُرْ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِمَاعِ الْفَضْلِ وَدَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَكَرَمِ النَّفْسِ وَغَايَةِ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ إذَا لَمْ يَقْتَصِرْ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُمْ حَتَّى عَفَا عَنْهُمْ. ثُمَّ شَفِقَ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ وَدَعَا وَشَفَعَ لَهُمْ، فَقَالَ اهْدِ، ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الشَّفَقَةِ وَالْمَرْحَمَةِ بِقَوْلِهِ قَوْمِي، ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْهُمْ بِجَهْلِهِمْ، فَقَالَ إنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ انْتَهَى. مُلَخَّصًا - وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] آخِرُ الْآيَةِ {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] عَنْ تَفْسِيرِ الْعُيُونِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ أُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَقُومُ إلَّا مَنْ عَفَا» . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] أَيْ لِيُعْرِضُوا عَنْ ذُنُوبِهِمْ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْعَفْوِ فَيَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ وَلَوْ الْتِزَامًا {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] قِيلَ أَيْ إذَا عَفَوْتُمْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْآيَاتِ هُوَ الدَّالَّةُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْعَفْوِ، وَاللَّازِمُ مِنْ بَعْضِهَا هُوَ أَصْلُ الْعَفْوِ لَا أَفْضَلِيَّتُهُ فَافْهَمْ.
(م) مُسْلِمٌ (ت) التِّرْمِذِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» قَالَ الطِّيبِيُّ مِنْ هَذِهِ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً أَيْ مَا نَقَصَتْ مَالًا وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صِلَةً لَنَقَصَتْ وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ أَيْ مَا نَقَصَتْ شَيْئًا مِنْ مَالٍ فِي الدُّنْيَا بِالْبَرَكَةِ فِيهِ وَدَفْعِ الْمُفْسِدَاتِ عَنْهُ وَالْإِخْلَافِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَجْدَى وَأَنْفَعُ وَأَكْثَرُ وَأَطْيَبُ {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]- أَوْ فِي الْآخِرَةِ بِإِجْزَالِ الْأَجْرِ وَتَضْعِيفِهِ أَوْ فِيهِمَا وَذَلِكَ جَابِرٌ لِأَوْصَافِ ذَلِكَ النَّقْصِ بَلْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْكُمَّلِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ نَقْصًا.
قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ مِنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ فَوَزَنَهَا فَلَمْ تَنْقُصْ قَالَ وَأَنَا وَقَعَ لِي ذَلِكَ وَقَوْلُ الْكَلَابَاذِيِّ قَدْ يُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الْفَرْضُ وَبِإِخْرَاجِهَا لَمْ تُنْقِصْ مَالَهُ لِكَوْنِهَا دُنْيَا فِيهِ بُعْدٌ لَا يَخْفَى كَذَا فِي الْفَيْضِ فَحَمْلُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ هُنَا عَلَى الْفَرْضِ بَعِيدٌ.
(وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ) أَيْ بِسَبَبِ عَفْوِهِ (إلَّا عِزًّا) فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَظِيمٌ فِي الْقُلُوبِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يَعْظُمَ ثَوَابُهُ أَوْ فِيهِمَا (وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى) بِأَنْ يُثْبِتَ لَهُ فِي الْقُلُوبِ بِتَوَاضُعِهِ مَنْزِلَةً عِنْدَ النَّاسِ وَكَذَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى سَرِيرِ خُلْدٍ لَا يَفْنَى وَمِنْبَرِ مُلْكٍ لَا يَبْلَى وَمَنْ تَوَاضَعَ فِي تَحَمُّلِ مُؤَنِ خَلْقِهِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ مَا يَرْفَعُهُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ وَمَنْ تَوَاضَعَ فِي قَبُولِ الْحَقِّ مِمَّنْ دُونَهُ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ مَدْخُولَ طَاعَاتِهِ وَنَفَعَهُ بِقَلِيلِ حَسَنَاتِهِ وَزَادَ رِفْعَةَ دَرَجَاتِهِ وَحَفَظَهُ بِمُعَقِّبَاتِ رَحْمَتِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ مِنْ جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ الشُّحَّ بِالْمَالِ وَمُتَابَعَةَ السَّبُعِيَّةِ مِنْ إيثَارِ الْغَضَبِ