الْإِنْكَارِ عَلَى مَضْمُونِ الْحُكْمِ بِنَصِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِنَوْعِهِ أَوْ جِنْسِهِ عِبَارَةً أَوْ إشَارَةً أَوْ دَلَالَةً أَوْ مُقَايَسَةً «وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ» كَذَلِكَ «وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ» بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَتَزَاحُمِ الْمَعَانِي وَلِوُقُوعِهِمَا بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَلِتَجَاذُبِ الرِّوَايَاتِ وَتَخَالُفِ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ أَيْضًا وَلَا مُرَجِّحَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.
«لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ» لِخَفَائِهِنَّ كَالْجِهَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ نَحْوِ خَفَاءِ النَّصِّ وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ قَيَّدَ بِالْكَثِيرِ إذْ الْقَلِيلُ كَالْمُجْتَهِدِ يَعْلَمُهَا بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ لَا يَعْلَمُ كُلَّ حُكْمٍ لِثُبُوتِ التَّوَقُّفِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَثُبُوتِ لَا أَدْرِي كَمَالِكٍ مِمَّنْ أُجْمِعَ عَلَى فَقَاهَتِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ لَا يَعْلَمُ قَطْعًا فِي كُلِّ اجْتِهَادِيَّةٍ بَلْ ظَنًّا عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ فَلَفْظُ كَثِيرٍ تَجُوزُ عَنْ الْكُلِّ أَوْ يُرَادُ غَيْرُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَا يَشْكُلُ بِأَنَّهُ إذَا عَلِمَهَا الْمُجْتَهِدُ ابْتِدَاءً يَعْلَمُهَا الْمُقَلِّدُ انْتِهَاءً فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا بَيِّنًا فَلَا يَبْقَى مُشْتَبَهٌ قِيلَ هُنَا اُخْتُلِفَ فِي تَعَاطِي الشُّبُهَاتِ فَقِيلَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ «اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» .
وَقِيلَ حَلَالٌ بِدَلِيلٍ «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى» إلَى آخِرِهِ وَقِيلَ بِالْوَقْفِ كَمَا فِي الْفَتْحِيَّةِ انْتَهَى. فَفِيهِ تَأَمُّلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَمَامِ مَقْصُودِ الْحَدِيثِ «فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ» طَلَبَ التَّبَرِّي «لِدِينِهِ» مِنْ الْخَطَرِ الشَّرْعِيِّ.
«وَعِرْضِهِ» مِنْ وُقُوعِ النَّاسِ فِيهِ أَوْ بَدَنِهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ «وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا فَعَلَهُ حَرَامًا أَوْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ ظَاهِرَهُ مُوجِبَةٌ كُلِّيَّةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ يَقَعُ فِي الْحَلَالِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْإِيجَابُ الْجُزْئِيُّ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ بَلْ احْتِمَالٌ وَلَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ.
قَالَ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ إنَّ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَظْنُونَةِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ أَصْلٍ قَطْعِيٍّ يَجِبُ انْدِرَاجُهَا فِي هَذَا الْحُكْمِ مِثْلُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَنَّ كُلَّ مَسْمُومٍ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، ثُمَّ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ مَسْمُومٌ فَإِنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ اجْتِنَابَهُ وَأَيْضًا سَمِعْت مِرَارًا عَنْ التَّلْوِيحِ الْحُرُمَاتُ كَدَرْءِ الْعُقُوبَاتِ تُثْبِتُ الشُّبُهَاتِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى مَنْ تَعَوَّدَ فِي وُقُوعِ الشُّبُهَاتِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْخَفَاءِ وَقِيلَ يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ وَقِيلَ التَّجَاسُرُ عَلَى الشُّبْهَةِ يَكُونُ دَاعِيًا إلَى تَجَاسُرِ الْحَرَامِ وَأَيْضًا فِيهِ خَفَاءٌ لَا يَخْفَى، ثُمَّ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى تَجَنُّبِ الشُّبُهَاتِ فَأَوْلَى عَلَى تَجَنُّبِ مَا يَكُونُ صَغِيرَةً قَطْعًا كَالْكَبِيرَةِ لَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ كَلَامُنَا عَلَى تَسْلِيمِ كَوْنِ الصَّغَائِرِ مُكَفِّرَةً عِنْدَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ فَلَا يَدُلُّ الِاجْتِنَابُ عَنْ الْحُرْمَةِ وَلَوْ احْتِمَالًا عَلَى الِاجْتِنَابِ عَنْ الصَّغِيرَةِ إذْ هِيَ مُكَفِّرَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ الشُّبُهَاتِ عَامَّةً عَلَى مَا يَحْتَمِلُ الْكَبِيرَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَيُسْتَعَانُ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعَ اللَّامِ أَوْ لَمَّا كَانَ فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ، وَكَانَ الْأَمْرُ مُهِمًّا اسْتَوْضَحَ بِتَشْبِيهِ الْمَحْسُوسِ فَقَالَ «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى» أَيْ حَالُهُ كَحَالِ مَنْ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى هُوَ مَا حُمِيَ مِنْ الْأَرْضِ وَمُنِعَ مِنْهُ الْغَيْرُ «يُوشِكُ» بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ يُسْرِعُ وَيَقْرُبُ «أَنْ يَقَعَ فِيهِ» أَيْ فِي الْحِمَى وَتَأْكُلُ مَاشِيَتُهُ مِنْهُ عَنْ الْمُحَشِّي شَبَّهَ الْمُكَلَّفَ بِالرَّاعِي وَالنَّفْسَ الْبَهِيمِيَّةَ بِالْأَنْعَامِ وَالْمُشْتَبِهَاتُ بِمَا حَوْلَ الْحِمَى وَالْمَحَارِمُ بِالْحِمَى فَيَكُونُ تَشْبِيهًا مَعْلُومًا بِاعْتِبَارِ طَرَفَيْهِ وَتَمْثِيلًا