شَرٍّ سَوَاءٌ شَرًّا أَصْلِيًّا أَوْ شَرًّا غَيْرَ أَصْلِيٍّ، وَهِيَ مَا نُهِيَ عَنْهُ تَأْدِيبًا، وَهُوَ فُضُولُ الْحَلَالِ كَالْمُبَاحَاتِ الْمَأْخُوذَةِ بِالشُّبُهَاتِ فَالْأُولَى يُوجِبُ تَرْكُهَا عَذَابَ النَّارِ وَالثَّانِيَةُ يُوجِبُ تَرْكُهَا الْحَبْسَ وَالْحِسَابَ وَالتَّعْيِيرَ وَاللَّوْمَ فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ اسْتَكْمَلَ حَقَّ التَّقْوَى وَجَمَعَ كُلَّ خَيْرٍ وَهَذَا هُوَ الْوَرَعُ الْكَامِلُ اهـ، ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَدَلَّ عَلَى لُزُومِ اجْتِنَابِ الصَّغَائِرِ لِلْمُتَّقِي بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ أَوَّلًا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَثَانِيًا بِالنَّقْلِيَّةِ فَأَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ أَوَّلًا فَأَشَارَ إلَى وَجْهِ الدَّلَالَةِ فَقَالَ (يَقُولُ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى) أَظْهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَحِذَارًا مِنْ وَهْمِ الْعُجْبِ وَنَحْوِهِ (هَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ) صَرِيحٌ لِعَدَمِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ (فِي لُزُومِ اجْتِنَابِ الصَّغَائِرِ) فِي التَّقْوَى بِهَذَا الْمَعْنَى الْخَاصِّ (لِأَنَّهَا) أَيْ الصَّغَائِرَ (بَعْدَ الْإِغْمَاضِ) عَمَّا ذُكِرَ (وَمُسَاعَدَةُ الْخَصْمِ) الْقَائِلِ بِأَنَّهَا مُكَفِّرَةٌ عَنْ مُجْتَنِبِ الْكَبَائِرِ (مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ) يَعْنِي الصَّغَائِرَ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ وَكُلُّ مَا لَا بَأْسَ بِهِ لَازِمٌ تَرْكُهُ لِلْمُتَّقِي بِحُكْمِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا شُمُولُ الْكُبْرَى لِلْحَلَالِ الْمَحْضِ فَسَيُجِيبُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ، وَأَمَّا الْحَلَالُ الْخَالِصُ (بَلْ يَزِيدُ) أَيْ هَذَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ (وَيَقُولُ: كَلِمَةُ مَا) فِي قَوْلِهِ مَا لَا بَأْسَ بِهِ (عَامَّةٌ لِكُلِّ مَا فِيهِ احْتِمَالُ الْحُرْمَةِ) كَالشُّبُهَاتِ بَلْ مَا يَحْتَمِلُ الْحُرْمَةَ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا وَلَوْ كَانَ جَانِبُ الْحِلِّ رَاجِحًا (وَ) احْتِمَالُ (الْإِفْضَاءِ إلَى الْحَرَامِ) فَإِنْ قِيلَ عُمُومُ مَا لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِمَا ذُكِرَ بَلْ شَامِلٌ لَهُ وَلِكُلِّ مَا لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ فَإِنْ أُرِيدَ هَذَا الْخُصُوصُ مِنْ هَذَا الْعَامِّ فَلَا دَلَالَةَ لِلْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْعُمُومُ عَلَى عُمُومِهِ فَمَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ صَرِيحِ لَفْظِهِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي نَفْسِهِ لِإِفْضَائِهِ إلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْعَامُّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ فَالِاحْتِجَاجُ بِالْعَامِّ مَحَلُّ كَلَامٍ كَمَا فَصَّلَ فِي الْأُصُولِ قُلْنَا قَوْلُهُ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ عُرْفًا دَافِعٌ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ.
وَقَدْ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ: إنَّ اسْتِعْمَالَ النَّاسِ حُجَّةٌ وَالْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ يُتَسَارَعُ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِلَا صَارِفٍ وَعِنْدَ الصَّارِفِ إلَى غَيْرِهِ وَلَوْ لُغَوِيًّا مَجَازٌ عُرْفِيٌّ فَتَنْدَفِعُ أَيْضًا إذْ الْمُرَادُ وَلَوْ مَعْنًى عُرْفِيًّا لَكِنْ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ.
وَقَدْ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ: وَلَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ كَوْنُ كَلِمَةِ " مَا " عَامَّةً لَيْسَ بِمَقْطُوعٍ بِهِ كَمَا فِي الْأُصُولِ لَكِنَّ الْمَقَامَ كَالْخَطَّابِيِّ فَلَا يُعْبَأُ بِهِ (كَعُمُومِ الثَّانِيَةِ) فِي مِمَّا بِهِ بَأْسٌ (الْحَرَامَ) مَفْعُولُ الْعُمُومِ إنْ خَصَّ الْبَأْسَ بِالْحَرَامِ وَالظَّاهِرُ مُطْلَقُ الضَّرَرِ الشَّامِلِ لَهُ وَلِنَحْوِ الْمَكْرُوهِ لَكِنْ بَعْدَ الْإِغْمَاضِ الْمَذْكُورِ يَنْبَغِي عَدَمُ الشُّمُولِ.
(وَأَمَّا الْحَلَالُ الْخَالِصُ عَنْ) شَائِبَةِ (الشُّبْهَةِ) ابْتِدَاءً أَوْ إفْضَاءً (فَلَا يَتَنَاوَلُهُ) لَفْظُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ (عُرْفًا) إذْ هُوَ فِي الْعُرْفِ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت تَفْصِيلَ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ لَا بَأْسَ فَارْجِعْ تَرْشُدْ (وَإِنْ تَنَاوَلَهُ) أَيْ، وَإِنْ تَنَاوَلَ لَفْظُ لَا بَأْسَ الْحَلَالَ (لُغَةً) إذْ الْحَلَالُ لَيْسَ فِيهِ بَأْسٌ أَيْ ضَرَرٌ وَقَدْ عَرَفْت هَذَا الْقَوْلَ آنِفًا وَهَذَا الْفَقِيرُ الضَّعِيفُ أَيْضًا يَقُولُ ابْتِدَاءً أَوْ انْتِزَاعًا مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ الْمُبَاحَاتُ الْمَأْخُوذَةُ بِالشُّبُهَاتِ وَفُضُولُ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ وَالِانْهِمَاكَ فِيهِ رُبَّمَا يَجُرُّ صَاحِبَهُ إلَى الْحَرَامِ لِشَرَهِ النَّفْسِ وَطُغْيَانِهَا وَتَمَرُّدِ الْهَوَى فَالْأَمْنُ وَالسَّلَامَةُ التَّجَنُّبُ عَنْهُ لِئَلَّا يَجُرَّ إلَى الْحَرَامِ كَمَا هُوَ مَضْمُونُ الْحَدِيثِ وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ الشُّبْهَةَ تَكْفِي لِإِثْبَاتِ الْعِبَادَاتِ كَمَا تَكْفِي لِرَدِّ الْعُقُوبَاتِ وَسَيُفْهَمُ مِنْ الْحَدِيثِ الْآتِي وَأَيْضًا قَالُوا الْإِصْرَارُ عَلَى الْمُبَاحِ لِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي كَالصَّيْدِ صَغِيرَةٌ حَتَّى قِيلَ مَنْ اتَّخَذَ الِاكْتِسَابَ بِالصَّيْدِ فَلَا يُؤْكَلُ.
(خ م عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) هَذَا دَلِيلٌ نَقْلِيٌّ آخَرُ عَلَى لُزُومِ اجْتِنَابِ الصَّغَائِرِ فِي التَّقْوَى (يَقُولُ إنَّ «الْحَلَالَ بَيِّنٌ» التَّأْكِيدُ إمَّا لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ أَوْ لِأَمَارَةِ