بِاعْتِبَارِ وَجْهِهِ انْتَهَى «أَلَا» حَرْفُ افْتِتَاحٍ جِيءَ بِهِ لِعِظَمِ مَا بَعْدَهَا «وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ» بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ الْمُلُوكِ «حِمًى» يَحْمِيهِ مِنْ النَّاسِ «أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ» أَيْ الْمَعَاصِي يَحْمِيهَا مِنْ كُلِّ دَاخِلٍ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ يُعَاقِبُ دَاخِلَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَارِبَ مَا يُفْضِيهَا وَمَا يَقْرَبُهَا أَيْضًا لِئَلَّا يَقَعَ فِيهَا «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً» قِطْعَةَ لَحْمٍ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ «إذَا صَلَحَتْ» بِالْفَتْحِ أَوْ بِالضَّمِّ «صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» ؛ لِأَنَّهَا أَمِيرُهُ وَسُلْطَانُهُ «، وَإِذَا فَسَدَتْ» أَظْلَمَتْ بِالضَّلَالَةِ وَالْغَبَاوَةِ «فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» بِارْتِكَابِ الْمُنْكَرَاتِ وَإِقْدَامِ الْمَنْهِيَّاتِ «أَلَا، وَهِيَ» أَيْ الْمُضْغَةُ «الْقَلْبُ» سُمِّيَ بِهِ لِانْقِلَابِ مَا فِيهِ مِنْ الْخَوَاطِرِ قِيلَ يَعْنِي الْقَلْبَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلِكِ وَالْجَسَدُ كَالْمَدِينَةِ، وَهُوَ قَاعِدٌ فِي وَسَطِهَا وَسَائِرُ الْجَوَارِحِ بِمَنْزِلَةِ الرَّعَايَا مُطِيعَاتٌ لِلْمَلِكِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ فَإِصْلَاحُهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُهِمَّاتِ قِيلَ عَنْ الْمُنَاوِيِّ عَقَّبَ بِهِ قَوْلَهُ «الْحَلَالَ بَيِّنٌ» إشْعَارًا بِأَنَّ أَكْلَ الْحَلَالِ يُنَوِّرُهُ وَيُصْلِحُهُ وَالشُّبَهُ تُقَسِّيهِ وَتُظْلِمُهُ (وَأَيْضًا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مَرْعِيٌّ فِي الشَّرْعِيِّ مَا أَمْكَنَ) ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا إذْ النَّقْلُ بِلَا مُنَاسَبَةٍ أَصْلًا جَائِزٌ كَالْمُرْتَجِلِ فَالرِّعَايَةُ أَوْلَى قِيلَ تَارَةً بِالتَّخْصِيصِ وَتَارَةً بِالنَّقْلِ لِمُنَاسَبَةٍ (وَفَرْطُ الصِّيَانَةِ) الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلتَّقْوَى (يَقْتَضِي الِاجْتِنَابَ عَنْ الصَّغَائِرِ وَالشُّبُهَاتِ أَيْضًا) كَالْكَبَائِرِ إذْ الْكَبَائِرُ بِأَصْلِ الصِّيَانَةِ، وَأَمَّا فَرْطُهَا فَبِالِاجْتِنَابِ عَنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاقْتِضَاءِ هُوَ مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ وَصِحَّتُهُ لَا الِاقْتِضَاءُ التَّامُّ الضَّرُورِيُّ وَإِلَّا فَظَاهِرُ الْمَنْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ (لَكِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ جَمِيعِ الشُّبُهَاتِ لَا يُمْكِنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ) لِغَلَبَةِ الشُّبُهَاتِ لِشُيُوعِ الْجَهْلِ وَعُسْرِ التَّجَنُّبِ عَنْهَا.
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الرَّجُلُ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ الْمَالَ أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» كَذَا رُوِيَ عَنْ الْبُخَارِيِّ (عَلَى مَا سَيَجِيءُ) فِي ثَانِي الْبَابِ الثَّالِثِ (إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَفِي الْحَدِيثِ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الْمُسْتَمْسِكُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ (فَخَرَجَ) مِنْ لُزُومِ الِاجْتِنَابِ فِي التَّقْوَى (مَا عَدَا الشُّبْهَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْحَرَامِ) ، وَهُوَ مَا يَكُونُ جَانِبُ الْحِلِّ رَاجِحًا أَوْ مُتَسَاوِيًا لَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ تَرْجِيحُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَعَلَى النَّدْبِ نَعَمْ فِيهِ أَيْضًا رُجْحَانُ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي فَتَأَمَّلْ (لِأَنَّ الطَّاعَةَ) لِلَّهِ تَعَالَى (بِقَدْرِ الطَّاقَةِ) إذْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا.
وَقَدْ قَالَ - «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» - «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» - لَكِنْ يَأْتِي مَا قَالُوا فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّجَنُّبُ عَنْ الْكُلِّ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكُلِّ فَإِذَا لَزِمَ التَّجَنُّبُ عَنْ الْبَعْضِ وَالْإِقْدَامِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُعَيَّنًا فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ وَإِلَّا فَالِاجْتِنَابُ عَنْ الْمَجْهُولِ مُحَالٌ وَالْجَوَابُ بِغَلَبَةِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَوْ تَسَاوِيهِ يَقْتَضِي ضَابِطَةً بِهَا يُمَيِّزُ الْبَعْضَ عَنْ الْبَعْضِ، وَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ لَيْسَا بِمُخْتَلِفَيْنِ وَالْحَقُّ أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِالْمُجْتَهِدِ وَلَا عِبْرَةَ بِالْغَيْرِ وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الْمُجْتَهِدِ (فَتَعَيَّنَ لُزُومُ اجْتِنَابِ كُلِّ حَرَامٍ وَمَكْرُوهٍ تَحْرِيمًا) فَتَرْكُ الْوَاجِبَاتِ دَاخِلٌ فِي الْحَرَامِ