صَاحِبِ الْكِفَايَةِ وَالْحَقُّ أَنَّهَا اسْمَانِ إضَافِيَّانِ لَا يُعْرَفَانِ بِذَاتِهِمَا فَكُلُّ مَعْصِيَةٍ إنْ أُضِيفَتْ إلَى مَا فَوْقَهَا فَهِيَ صَغِيرَةٌ، وَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى مَا دُونَهَا فَهِيَ كَبِيرَةٌ قَالَ أَيْضًا وَقِيلَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَصَرَّ عَلَيْهَا الْعَبْدُ فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَكُلُّ مَا اُسْتُغْفِرَ مِنْهَا فَهِيَ صَغِيرَةٌ وَقِيلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الْكَبَائِرُ حُقُوقُ الْعِبَادِ وَالصَّغَائِرُ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يَغْفِرُ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ: الْكَبَائِرُ ذُنُوبُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالسَّيِّئَاتُ ذُنُوبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقِيلَ الْكَبَائِرُ الْعَمْدُ وَالصَّغَائِرُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَحَدِيثُ النَّفْسِ الْمَرْفُوعُ عَنْ الْأُمَّةِ.
وَقِيلَ الْكَبَائِرُ ذُنُوبُ الْمُسْتَحِلِّينَ وَالصَّغَائِرُ ذُنُوبُ الْمُسْتَغْفِرِينَ وَقَالَ السُّدِّيَّ الْكَبَائِرُ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَالسَّيِّئَاتُ مُقَدِّمَاتُهَا وَتَوَابِعُهَا وَقِيلَ الْكَبَائِرُ مَا يَسْتَحْقِرُهُ الْعِبَادُ وَالصَّغَائِرُ مَا يَخَافُونَهُ انْتَهَى نَقْلًا عَنْ الْبَغَوِيّ لَا يَخْفَى عَدَمُ صَلَاحِيَّةِ هَذِهِ الْخِلَافِيَّاتِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ وَأَنْتَ سَمِعْت مَا يَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ هَذَا لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِضَافَةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ فَرْدٍ حَقِيقِيٍّ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَبِيرَةِ وَأَيْضًا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْآيَةِ مَعْنًى مَحْصُولٌ مُعْتَدٌّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ إطْلَاقُ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ فَلَا مَعْنَى لَأَنْ يُقَالَ إنْ تَجْتَنِبُوا عَنْ الْكَبَائِرِ نُكَفِّرْ كَبَائِرَكُمْ أَوْ إنْ تَجْتَنِبُوا عَنْ الصَّغَائِرِ نُكَفِّرْ صَغَائِرَكُمْ وَلَعَلَّ هَذَا مَدَارُ التَّسْلِيمِ فِي قَوْلِهِ (وَعَلَى التَّسْلِيمِ لَمْ نَعْلَمْ يَقِينًا عَدَدَ الْكَبَائِرِ) ؛ لِأَنَّهُ (قِيلَ سَبْعٌ وَقِيلَ سَبْعُونَ وَقِيلَ سَبْعُمِائَةٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ) وَقَدْ عَرَفْت الِاخْتِلَافَاتِ فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ.
وَأَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْكَبَائِرِ أَسَبْعٌ هِيَ قَالَ هِيَ إلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ إلَّا أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ.
أَقُولُ أَيْضًا: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً أَيُّ عَدَدٍ اُعْتُبِرَ وَإِلَّا فَيَكُونُ الْخِطَابُ كَالْعَبَثِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ الْحَكِيمَ فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْعَدَدِ صَغِيرَةٌ قَطْعًا أَوْ لَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ الْعُلَمَاءِ لِوَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ فَالِاعْتِبَارُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ بَعْضَهَا كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَبَعْضَهَا ضَعِيفٌ لَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فَلْنَأْخُذْ الْقَوِيَّ كَرِوَايَةِ السَّبْعِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يُخْفِيهِ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَسَاعَةِ الْجُمُعَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُخْفِيَ الْكَبَائِرَ لِحِكْمَةِ اجْتِنَابِ كُلِّ مَعْصِيَةٍ عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِهَا كَبِيرَةً كَمَا نُقِلَ عَنْ مُخْتَصَرِ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُعَيِّنْ جُمْلَةَ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِغْرَاءَ عَلَى الصَّغَائِرِ الْإِخْبَارُ بِتَكْفِيرِهَا عِنْدَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ.
(وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) فِيمَا خَرَّجَهُ (ت) التِّرْمِذِيُّ (وَحَسَّنَهُ ومج وحك) وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ (وَصَحَّحَهُ) الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مَا اتَّصَلَ سَنَدُهُ وَعُدِّلَتْ نَقَلَتُهُ وَسَلِمَ مِنْ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ وَالْحَسَنُ دُونَ ذَلِكَ إذْ هُوَ مَا خَفَّ ضَبْطُهُ وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يَلْحَقُ بِالصَّحِيحِ وَمَا سِوَاهُمَا فَضَعِيفٌ.
(عَنْ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ» أَيْ دَرَجَةَ الْمُتَّقِينَ «حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ» وَلَوْ مُبَاحًا «حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ: أَنْ يَتْرُكَ فُضُولَ الْحَلَالِ حَذَرًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.
قَالَ الْغَزَالِيِّ: الِاشْتِغَالُ بِفُضُولِ الْحَلَالِ وَالِانْهِمَاكُ فِيهِ يَجُرُّ إلَى الْحَرَامِ لِشَرَهِ النَّفْسِ وَطُغْيَانِهَا وَتَمَرُّدِ الْهَوَى وَشَيْطَانِهِ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْمَنَ مِنْ الضَّرَرِ فِي دِينِهِ اجْتَنَبَ الْخَطَرَ فَامْتَنَعَ عَنْ فُضُولِ الْحَلَالِ حَذَرًا أَنْ يَجُرَّهُ إلَى مَحْضِ الْحَرَامِ، ثُمَّ قَالَ لِلتَّقْوَى مَرَاتِبُ، التَّوَقِّي مِنْ الْعَذَابِ الْمُخَلَّدِ بِالتَّبَرِّي عَنْ الشِّرْكِ {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] وَالتَّوَقِّي عَنْ كُلِّ مَا يُؤَثِّمُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ حَتَّى الصَّغَائِرِ، وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ بِالتَّقْوَى فِي الشَّرْعِ الْمَقْصُودَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَالتَّوَقِّي عَمَّا يَشْغَلُ سِرَّهُ عَنْ رَبِّهِ، وَهُوَ التَّقْوَى الْحَقِيقِيَّةُ الْمَطْلُوبَةُ بِقَوْلِهِ - {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]- وَيَجُوزُ تَنْزِيلُ الْحَدِيثِ أَيْضًا اهـ.
قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ أَنَا وَجَدْت التَّقْوَى بِمَعْنَى اجْتِنَابِ فُضُولِ الْحَلَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا سُمِّيَ الْمُتَّقُونَ مُتَّقِينَ لِتَرْكِهِمْ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ» .
وَأَحْبَبْت أَنْ أَجْمَعَ بَيْن مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَكُونَ حَدًّا جَامِعًا فَأَقُولُ التَّقْوَى اجْتِنَابُ كُلِّ مَا تَخَافُ مِنْهُ ضَرَرًا فِي دِينِك، وَأَمَّا تَحْدِيدُهَا عَلَى مَوْضُوعِ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ تَبْرِئَةُ الْقَلْبِ مِنْ شَرٍّ لَمْ يَسْبِقْ مِنْك مِثْلُهُ لِقُوَّةِ الْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ وِقَايَةً بَيْنَك وَبَيْنَ كُلِّ