وَلِخَفَاءِ هَذَا التَّأْوِيلِ عَلَى ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالنَّوَوِيِّ حَكَمَا بِبُطْلَانِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا حَكَى الْمُنَاوِيُّ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ مُعَقِّبًا عَلَيْهِمَا أَنَّهُ عَجِبَ مِنْهُمَا مَعَ وُرُودِ الْحَدِيثِ عَنْ ثَلَاثَةِ صَحَابِيِّينَ لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَرْبَعَةٌ أَنَسٌ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
ثُمَّ أَقُولُ لَوْ حُمِلَ الْمَقَامُ عَلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْخَارِجِ لَانْدَفَعَ بِالْكُلِّيَّةِ وَبِالْجُمْلَةِ الْحَدِيثُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ
وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا ... لَطَارَتْ وَلَكِنَّهَا لَمْ تَطِرْ
(سَيِّدُنَا) لَعَلَّ الْأَنْسَبَ أَيْ مُعَاشِرُ أَمَتِهِ (وَسَيِّدٌ) بِصِيغَةِ اسْمِ فَاعِلٍ فِيهِمَا مِنْ السِّيَادَةِ بِمَعْنَى الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ (الْأَوَّلِينَ) الْأَظْهَرُ أَيْ مَنْ تَقَدَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَانًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْأَوَّلِ مُطْلَقُ النَّاسِ فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ وَمِنْ الثَّانِي فِي النَّشْأَةِ الْأُولَى يَعْنِي الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْأَجْسَامِ فَإِنَّ سِيَادَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَسَبِ نُورِهِ الرُّوحِيِّ عَلَى الْجَمِيعِ ثَابِتٌ بِالْآثَارِ وَتَكَاثُرِ الْأَخْبَارِ بَلْ نُورُهُ اللَّطِيفُ أَصْلُ أَنْوَارِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَمُسْتَفَادَةٌ عَنْهُ فَيُنَاسِبُ أَنْ يُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ (وَالْآخِرِينَ) الْعَرَصَاتُ وَالْقِيَامَةُ وَإِنْ اتَّفَقَ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ قَدْ بَيَّنَ سِيَادَتَهُ فِي بَيَانِ أَفْضَلِيَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إجْمَالًا وَنُفَصِّلُ بَعْضَهُ بَعْضًا
قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81]- الْآيَةَ وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَن بِهِ وَلْيَنْصُرَنهُ وَقِيلَ عَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُرَادُ كُلُّ نَبِيٍّ مَعَ أُمَّتِهِ أَوْرَدَ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ عِنْدَ مَبْعَثِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ أَمْوَاتًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الْإِيمَانُ فَأَوَّلَ أَنَّ الْمُرَادَ أَخْذُهُمْ الْمِيثَاقَ مِنْ أُمَمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ وَصَلُوا بَعْثَهُ وَأَيَّدَ بِأَنَّ فِي الْآيَةِ الْحُكْمُ بِالْفِسْقِ عِنْدَ الْمُتَارَكَةِ وَهَذَا لَيْسَ بِلَائِقٍ بِالْأَنْبِيَاءِ أَقُولُ الْمِيثَاقُ مِنْ الْأَرْوَاحِ كَمَا يَشْهَدُهُ بَعْضُ الْآثَارِ وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمُرَادُ مُجَرَّدُ إظْهَارِ رُتْبَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الشَّرَفِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَعْنَى أَنَّ نِسْبَةَ الشَّرَفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَوْ كَانُوا أَحْيَاءً فِي زَمَانِهِ لَكَانُوا كَذَا وَأَيْضًا الْفِسْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُتَارَكَةِ وَهِيَ مُحَالٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَالْمَبْنِيُّ عَلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الْجَوَابِ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ كَمَا فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]- عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ فِي مِثْلِهِ إرَادَةُ الْغَيْرِ وَالتَّعْرِيضُ لَا النَّبِيُّ وَعَنْ السُّبْكِيّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ نُبُوَّتَهُ لَيْسَتْ بِمُخْتَصَّةٍ بِمَنْ بَعْدَهُ بَلْ إلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُعِثْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً» .
وَفِي الْمَوَاهِبِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ جَابِرٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَعْنَاهُ الْإِجْمَالِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ نُورَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ فَخَلَقَ مِنْهُ الْقَلَمَ وَاللَّوْحَ وَالْعَرْشَ وَحَمَلَتَهُ وَالْكُرْسِيَّ وَسَائِرَ الْمَلَائِكَةِ وَأَيْضًا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَأَيْضًا نُورَ أَبْصَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَنُورَ قُلُوبِهِمْ وَنُورَ أَنْفُسِهِمْ يَعْنِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» .
وَأَمَّا سِيَادَتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِينَ فَمَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ أَيْضًا وَلْنُذْكَرْ تَفْصِيلَ بَعْضِهِ أَيْضًا وَهُوَ مَا فِي تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ «أَنَّ الزَّبَانِيَةَ يَأْتُونَ بِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ تَمْشِي عَلَى أَرْبَعِ قَوَائِمَ وَتُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفِ زِمَامٍ فِي كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفِ حَلْقَةٍ عَلَى كُلِّ حَلْقَةٍ سَبْعُونَ أَلْفِ مَلَكٍ فَإِذَا انْفَلَتَتْ مِنْ أَيْدِيهِمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إمْسَاكِهَا لِعِظَمِ شَأْنِهَا فَيَجْثُو كُلُّ مَنْ فِي الْمَوْقِفِ عَلَى الرُّكَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28]- حَتَّى الْمُرْسَلِينَ وَيَتَعَلَّقُ إبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْعَرْشِ وَهَذَا قَدْ نَسِيَ الذَّبِيحَ وَهَذَا هَارُونُ وَهَذَا مَرْيَمُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - قَائِلِينَ نَفْسِي نَفْسِي لَا أَسْأَلُك الْيَوْمَ غَيْرَهَا» لَكِنْ قَالَ فِي شِفَاءِ عِيَاضٍ «لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ خَوْفِهِمْ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ بَلْ لِإِظْهَارِ شَرَفِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ أُمَّتِي أُمَّتِي سَلِّمْهَا وَنَجِّهَا يَا رَبُّ وَعِنْدَ نَقْلِهَا تَكْبُو مِنْ الْحَنَقِ وَالْغَيْظِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12] أَيْ لِغَضَبِهَا وَحَنَقِهَا تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ فَيَقُومُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -