أَيْ الْخَيْرُ الْمُفْرِطُ الْكَثِيرُ أَوْ الْأَوَّلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وُصُولِ النِّعَمِ وَالثَّانِي إلَى الْخَلَاصِ مِنْ الْبُؤْسِ وَالنِّقَمِ (وَالسَّعَادَةُ الْكُبْرَى) أَيْ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ سَعَادَةٍ إذْ لَا شَقَاوَةَ بَعْدَهَا أَبَدًا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ النِّعْمَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُطْلَقِ نِعَمِ الْجَنَّةِ وَاللَّذَّةِ الْعَظِيمَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرُّؤْيَةِ وَكَذَا قَوْلُهُ وَالْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ لِسَائِرِ النِّعَمِ وَالسَّعَادَةُ الْكُبْرَى لِلرُّؤْيَةِ فَقَوْلُهُ النِّعْمَةُ مَعَ قَوْلِهِ وَالْفَوْزُ وَالسَّعَادَةُ كَالْمُتَسَاوِيَيْنِ وَكَذَا الْأَخِيرَانِ فَعِنْدَ قَصْدِ الْإِغْرَاءِ وَالْبَسْطِ وَالتَّرْغِيبِ يُؤْتَى بِمِثْلِ هَذَا الْإِطْنَابِ وَالتَّكْرِيرِ الْبَيَانِيِّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بِالِاعْتِبَارِ فَبِاعْتِبَارِ كَرَمٍ مِنْ اللَّهِ وَعَطَائِهِ لَا لِعِوَضٍ وَلَا لِغَرَضِ نِعْمَةٍ وَبِاعْتِبَارِ وُصُولِ الْإِنْسَانِ إلَيْهِ بَعْدَ سَعْيٍ وَكَدٍّ فِي طَرِيقِهِ وَخَلَاصٍ مِنْ مَخَاوِفِهِ وَعَوَائِقِهِ فَوْزٌ وَفَلَاحٌ، وَأَيْضًا اللَّذَّةُ حَالَّةٌ بِوَاسِطَةِ قُوَّةِ الذَّائِقَةِ وَقَدْ يَزُولُ، وَالسَّعَادَةُ شُرَافَةٌ فِي الذَّاتِ لَيْسَ لَهَا زَوَالٌ. فَلَوْ قَدَّمَ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ عَلَى النِّعْمَةِ لَكَانَ أَنْسَبَ إذْ هُمَا كَالْحَاصِلَيْنِ فِي طَرِيقِهَا أَيْ النِّعْمَةِ نَعَمْ قَدْ تُقَدَّمُ الْمَقَاصِدُ عَلَى الْوَسَائِلِ.
(وَأَنَّ الظَّفَرَ) عَطْفٌ عَلَى أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ (بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ يَعْنِي لَمَّا ذَكَرَ كَوْنَ نِعَمِ الْآخِرَةِ فِي غَايَةِ الْعِزَّةِ وَنِهَايَةِ الشَّرَفِ يُرِيدُ بَيَانَ سَبَبِ الْوَصْلِ إلَيْهَا لِيَسْعَى كُلُّ مَنْ يُرِيدُ وُصُولَهُ إلَيْهَا وَهِيَ مُتَابَعَةُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَإِنْ قُلْت هَذَا التَّسَبُّبُ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]- إذْ اللَّامُ لِلتَّخْصِيصِ وَمَأْخَذُ الِاشْتِقَاقِ فِي الْمُشْتَقَّاتِ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ عِنْدَ صَلَاحِهِ لَهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَابَعَةَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ إلَّا مَعْنًى لِلتَّقْوَى فَلَا مَعْنَى لِمَا ذَكَرَ ثَانِيًا قُلْت يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْصِيلًا بَعْدَ الْإِجْمَالِ وَتَصْرِيحًا بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا أَوْ الْتِزَامًا وَلِتَمْهِيدِ مَا بَعْدَهُ مِنْ أَحْوَالِ الشَّيْطَانِ وَمَرَاتِبِ الْإِنْسَانِ وَأَنَّ التَّكْرِيرَ فِي الْمَقَامِ الْخَطَّابِيِّ مِمَّا يُسْتَحْسَنُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا الْقَوْلُ عِلَّةً لِذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ مُعَدَّةٌ لِلْمُتَّقِينَ لِأَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ لِمَنْ تَابَعَ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ وَمَنْ تَابَعَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمُتَابَعَةِ) إي إتْيَانِ مِثْلِ فِعْلِ (خَاتَمِ النَّبِيِّينَ) يَجُوزُ الْكَسْرُ فِي التَّاءِ اسْمُ فَاعِلٍ وَفَتْحُهَا بِمَعْنَى الطَّابَعِ وَهُوَ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ فَالْمَفْهُومُ مِنْ الْبَيْضَاوِيِّ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْ آخِرُهُمْ الَّذِي خَتَمَهُمْ وَعَلَى الثَّانِي خُتِمُوا بِهِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مُتَابَعَتُهُ وَلَوْ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ إذْ عَمَلُهُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَأَتَمِّ طِرَازِ وَلَنْ يُتَصَوَّرَ لِأَحَدٍ وَلَوْ وَلِيًّا مُقَرَّبًا إتْيَانُ مِثْلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَاحِدِ فَضْلًا عَنْ الْجَمِيعِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا.
نَقُولُ مَأْمُورِيَّةُ كُلٍّ عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ وَلَا يُكَلَّفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ فَاللَّازِمُ بَذْلُ الْوُسْعِ وَصَرْفُ الطَّاقَةِ فِي أَمْرِ الْمُتَابَعَةِ حَتَّى يَتَشَرَّفَ بِتِلْكَ الْكَرَامَاتِ الْعَلِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِلَ إلَيْهَا مَنْ لَا يُتَابَعُ فِي الْجَمِيعِ وَمِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ أَصْلًا دُخُولُ الْجَنَّةِ قُلْنَا الْمُرَادُ هُوَ الظَّفَرُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَعْتَرِيهِ مِحْنَةٌ وَمَشَقَّةٌ وَلَا يُطْرِيهِ خَوْفٌ وَحَزَنٌ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ الظَّفَرِ ثُمَّ إنَّهُ أَشْكَلَ عَلَى كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِعِيسَى وَأَشَارَ الْبَيْضَاوِيُّ إلَى جَوَابِهِ بِأَنَّهُ إذَا نَزَلَ كَانَ عَلَى دِينِهِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ آخِرُ مَنْ نُبِّئَ انْتَهَى وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ يَنْسَخُ شَرِيعَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِهِ وَيُقَوِّيهِ حَدِيثُ «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لِمَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» فَعِيسَى وَكَذَا الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ مَنْ أَتْبَاعِهِ وَبِهِ أَيْضًا دُفِعَ الْإِشْكَالُ عَلَى الْخَاتِمِيَّةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ عَاشَ إبْرَاهِيمُ لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا» وَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ يُفِيدُ جَوَازَ النُّبُوَّةِ بَعْدَهُ وَوَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ نُبُوَّتُهُ يَكُونُ تَابِعًا لَا نَاسِخًا وَالْخَاتِمِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كَوْنِهِ نَاسِخًا أَقُولُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُطْلَقِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّبِيِّ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَنْصِبِهِ الْعَالِي وَشَرَفِهِ السَّامِي فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ وَالْمَوَاهِبِ مِنْ أَنَّ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ الْمُقَدَّمِ أَيْ بَقَاءِ إبْرَاهِيمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَعَلَّ تَحْقِيقَهُ مَا ذَكَرَ أَهْلُ الْمَعْقُولِ أَنَّ صِدْقَ الشَّرْطِيَّةِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمُقَدَّمِ صَادِقًا إذْ تَصْدُقُ مَعَ اسْتِحَالَتِهِ وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيقِ مُحَالٍ بِمُحَالٍ آخَرَ إذْ بَقَاءُ إبْرَاهِيمَ بَعْدَ مَوْتِهِ مُحَالٌ فَنُبُوَّتُهُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَيْهِ مُحَالٌ