قُلْنَا الِاخْتِصَاصُ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَقْتِ الرُّؤْيَةِ خِلَافَ رُؤْيَةِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ وَقْتَ رُؤْيَتِهِمْ يَسْتَغْرِقُونَ فِي مُطَالَعَةِ جَمَالِهِ بِحَيْثُ يَغْفُلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَضْلًا عَنْ الْغَيْرِ وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَعْضٍ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الرُّؤْيَةِ فَفِيهِ نَظَرٌ وَالْمُرَادُ مِنْ الرُّؤْيَةِ مَا هُوَ لِعَيْنِ الرَّأْسِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا إذْ النَّظَرُ الْمُسْتَعْمَلُ بِإِلَى فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ.

وَكَذَا الْإِجْمَاعُ فَمَنْ قَالَ إنَّمَا نَسَبَ الرُّؤْيَةَ إلَى الذَّاتِ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْوَجْهِ وَكَذَا حَقِيقَةُ الْوَجْهِ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بِجَمِيعِ ذَوَاتِهِمْ بِلَا اخْتِصَاصٍ بِالْعَيْنِ بَلْ يَرَى بِكُلِّ مِنْ الْحَاسَّةِ وَكَذَا مَا بِسَائِرِ الْحَوَاسِّ يُدْرِكُ بِكُلِّ مَا يُدْرِكُ بِالْآخَرِ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَا ارْتَكَبَ خِلَافَ دَلِيلٍ وَحُجَّةٍ وَقَدْ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ فُلَانٌ رَأَى وَيُرَادُ الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ كَمَا يُقَالُ تَكَلَّمَ فُلَانٌ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ بَلْ بِلِسَانِهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ التِّرْمِذِيِّ «إنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إلَى جَنَّاتِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنِعَمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُورِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى وَجْهِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ وَتَمَامُهُ «ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]-»

ثُمَّ قَالَ عَنْ الْغَيْرِ لَا غَدْوَةَ وَلَا عَشِيَّةَ هُنَاكَ فَالْمُرَادُ مُجَرَّدُ كَثْرَةِ النَّظَرِ فَاَللَّهُ تَعَالَى يُقَوِّيهِمْ لِيَسْتَوْفُوا لَذَّةَ النَّظَرِ فَيُنْسِيهِمْ ذَلِكَ كُلَّ النَّعِيمِ وَفِيهِ أَنَّهُ يُرْجَى نَيْلُ الرُّؤْيَةِ بِمُحَافَظَةِ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ بِالذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ (عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ رَبِّهَا (مَرْضِيَّةٌ) أَيْ تِلْكَ الْوُجُوهُ يَعْنِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِطَاعَتِهِ (مُطْمَئِنَّةٌ) بِذِكْرِهَا - {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]- فَإِنَّ النَّفْسَ تَتَرَقَّى فِي سِلْسِلَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ إلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ فَتَسْتَقِرُّ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ إلَى الْحَقِّ بِحَيْثُ لَا يَرِيبُهَا شَكٌّ أَوْ الْآمِنَةُ الَّتِي لَا يَسْتَفِزُّهَا خَوْفٌ أَوْ حَزَنٌ كَمَا ذَكَرَ الْبَيْضَاوِيُّ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ وَصْفًا تَعْلِيلِيًّا إذَا لَوْ وُصِفَ الصَّالِحُ لِلْعِلَّةِ عِلَّةً مَا فَوُصُولُ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا إلَى رُتْبَةِ الِاطْمِئْنَانِ سَبَبٌ إلَى رِضَاهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي الْعُقْبَى.

فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى الْأَوَّلِ مَثَلًا مَنْ لَمْ يَصِلْ فِي الدُّنْيَا إلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الرِّضَا قُلْنَا نَعَمْ وَإِنْ كَانَ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الرِّضَا لَعَلَّ الرِّضَا مُشَكَّكٌ يَتَفَاوَتُ بِالْقُوَّةِ وَنَحْوِهَا وَفَسَّرَ أَيْضًا بِالْمُؤْمِنَةِ الْمُوفِيَةُ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ الْمُتَقَرِّرَةُ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ الرَّاسِخَةِ فِيهِمَا بِحَيْثُ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ رَبِّهَا أَوْ عَطَاءِ رَبِّهَا عَلَى الِاسْتِخْدَامِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ بَيْنَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ (رَاضِيَةٍ) لِأَنَّهُمْ رَضُوا عَنْهُ بِثَوَابِهِ وَعَطَائِهِ ثُمَّ قِيلَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ أَيْ الْوُجُوهُ لَمْ يَرْضَى عَنْهُمْ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ لِتَرْكِهِمْ جَمِيعَ مَنْ سِوَاهُ أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ عِنْدَهُ إمَّا بَدَلٌ مِنْ يَوْمئِذٍ أَوْ إلَى رَبِّهَا وَإِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِمَرْضِيَّةٍ وَمَرْضِيَّةٌ إمَّا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِوُجُوهٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْ نَاضِرَةٍ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَيْسَ فِيهِ حَصْرٌ وَعَلَى الثَّانِي لَوْ كَانَ لَيْسَ مِنْ قَبْلِ مَا ذَكَرَهُ وَلَوْ سُلِّمَ صِحَّةُ الْحَصْرِ مُطْلَقًا فَالظَّاهِرُ عَدَمُ إرَادَتِهِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8]- تَلْمِيحًا أَوْ اقْتِبَاسًا أَوْ اقْتِصَاصًا فَلَا يَلِيقُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ (شَاكِرَةً)

فَإِنْ قِيلَ الشُّكْرُ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ إلَيْهِ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ دَارَ تَكْلِيفٍ قُلْنَا يَجُوزُ الْعِبَادَةُ فِي الْجَنَّةِ تَلَذُّذًا لَا تَكْلِيفًا وَلَوْ جُعِلَ مُقَدَّمَةُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ وَاجِبًا عَقْلِيًّا كَمَا هُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا شَرْعِيًّا كَمَا هُوَ الْحَقُّ فَالْأَمْر سَهْلٌ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: الشُّكْرُ رُؤْيَةُ الْمُنْعِمِ لَا رُؤْيَةُ النِّعْمَةِ وَمِنْ الشُّكْرِ الِاعْتِرَافُ بِالنِّعْمَةِ

(وَهَذِهِ) الظَّاهِرُ رُؤْيَةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ إذْ سَائِرُ نِعَمِ الْجَنَّةِ فِي جَنْبِ هَذِهِ النِّعْمَةِ كَنِعَمِ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ نِعَمِ الْجَنَّةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إلَى جَمِيعِ نِعَمِ الْآخِرَةِ (هِيَ النِّعْمَةُ) الْحَقِيقِيَّةُ التَّامَّةُ الدَّائِمَةُ لَا الْمَجَازِيَّةُ الصُّورِيَّةُ الْفَانِيَةُ الْمُتَشَتِّتَةُ الْقَذِرَةُ الَّتِي هِيَ مِحَنٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَنِقْمَةٌ فِي النَّتِيجَةِ وَعُقُوبَةٌ فِي الْوَصِيلَةِ.

(وَاللَّذَّةُ الْعُظْمَى) الظَّاهِرُ أَنَّ أَعْظَمِيَّتَهَا فِي نَفْسِهَا لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى نِعَمِ الدُّنْيَا فَإِنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا لَا تَقْبَلُ نِسْبَةً إلَيْهَا بَلْ تُلْحَقُ إلَى الْعَدَمِ فِي جَنْبِهَا فَضْلًا أَنْ يَشْتَرِكَا فِي أَصْلِ الْعَظَمَةِ كَمَا تَوَهَّمَ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ نَحْوِ اللَّهُ أَكْبَرُ (وَالْفَوْزُ) أَيْ الْوُصُولُ وَالظَّفَرُ بِتَمَامِ الْمُرَادِ أَوْ بِرِضَا اللَّهِ (وَالْفَلَاحُ)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015