عَلَيْهَا
(وَالِاسْتِطَاعَةُ) تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدِهِمَا مَا يَكُونُ (مَعَ الْفِعْلِ) لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلْفِعْلِ وَلَوْ عَادِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَمْتَنِعُ التَّخَلُّفُ أَوْ جُزْءٌ أَخِيرٌ لِلْعِلَّةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ شَرْطًا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هِيَ عَرَضٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَيَوَانِ يَفْعَلُ بِهِ الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ عِلَّةً أَوْ شَرْطًا وَالْعَرَضُ مُقَارِنٌ لِلْفِعْلِ زَمَانًا لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ
وَحَاصِلُ الِاسْتِطَاعَةِ هِيَ صِفَةٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ عِنْدَ قَصْدِ اكْتِسَابِ الْفِعْلِ بَعْدَ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ فَإِنْ قَصَدَ فِعْلَ الْخَيْرِ خَلَقَ اللَّهُ قُدْرَةَ فِعْلِ الْخَيْرِ وَكَذَا فِي الشَّرِّ فَكَانَ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِقُدْرَةِ فِعْلِ الْخَيْرِ فَيَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَلِهَذَا ذَمَّ الْكَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، وَالتَّفْصِيلُ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْقَصْدِ هُوَ صَرْفٌ فَالِاسْتِطَاعَةُ صِفَةٌ لِلْعَبْدِ حَاصِلَةٌ عِنْدَ صَرْفِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ، لَعَلَّ هُنَا أُمُورًا أَرْبَعَةً مُرَتَّبَةً الْإِرَادَةَ الْكُلِّيَّةَ الصَّالِحَةَ لَأَنْ تَتَعَلَّقَ بِكُلِّ مَقْدُورٍ فِي ذَاتِهَا ثُمَّ سَلَامَةَ الْأَسْبَابِ ثُمَّ صَرْفَ الْعَبْدِ هَذِهِ الْإِرَادَةَ إلَى فِعْلٍ مُعَيَّنٍ بِجَعْلِهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْفِعْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْإِرَادَةُ الْجُزْئِيَّةُ ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَخْلُقُ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ بِلَا تَقَدُّمٍ وَلَا تَأَخُّرٍ فَهَذَا الصَّرْفُ سَبَبٌ لَأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ هَذِهِ الْقُدْرَةَ أَيْ الِاسْتِطَاعَةَ هَذَا الَّذِي فُهِمَ مِنْ كَلَامِهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ إثْبَاتِ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ وَمَا فَائِدَةُ كَوْنِهَا مَعَ الْفِعْلِ قُلْنَا: قَالَ أَبُو الْمُعِينِ النَّسَفِيُّ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ مَا حَاصِلُهُ إثْبَاتُ أَصْلِ الِاسْتِطَاعَةِ لِنَفْيِ الْجَبْرِ وَإِثْبَاتُ الْمَعِيَّةِ لِنَفْيِ خَلْقِ الْعَبْدِ فِعْلَهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ مُسْتَطِيعًا مِنْ نَفْسِهِ قَبْلَ الْفِعْلِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْفِعْلِ وَكَلَامُ السَّعْدِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْقُدْرَةَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا بَقَاءَ لَهُ فَلَوْ كَانَتْ قَبْلَ الْفِعْلِ لَزِمَ وُقُوعُهُ بِلَا اسْتِطَاعَةٍ
وَأَوْرَدَ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ هَذَا الصَّرْفُ مِنْ اللَّهِ فَالْجَبْرُ لَازِمٌ وَلِصُعُوبَةِ ذَلِكَ أَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى الْمُنَاظِرِينَ وَدُفِعَ بِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُوجِدَ اللَّهُ الْقُدْرَةَ فِي الْعَبْدِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي تَأْثِيرِ فِعْلِهِ ثُمَّ قِيلَ: الْأَوْلَى طَرِيقَةُ تَرْكِ الْمُنَاظَرَةِ، لَعَلَّ ذَلِكَ لِلُزُومِ إثْبَاتِ التَّأْثِيرِ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِهِمْ، وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ لَا يَقُولُ بِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجُزْئِيَّةِ فِي الْخَارِجِ وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا خُلِقَ بِتَرْجِيحِ الْعَبْدِ أَحَدَ الْمَقْدُورَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّرْجِيحَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخَلْقُ وَتَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ التَّوْضِيحِ لَعَلَّكَ سَتَسْمَعُ مَا يُوَضِّحُ الْمَقَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْمِنْعَامُ (وَتُطْلَقُ) الِاسْتِطَاعَةُ (عَلَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ) وَالْجَوَارِحِ كَالْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]- وَهَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مِنْ طَرَفِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ الِاسْتِطَاعَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ فَأَجَابَ بِأَنَّ هُنَا اسْتِطَاعَةً أُخْرَى مُقَدَّمَةً عَلَى الْفِعْلِ وَهِيَ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ (وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ) مِنْ اللَّهِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي (تَعْتَمِدُ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي قَبْلَ الْفِعْلِ لَا الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي مَعَ الْفِعْلِ فَلَا يَلْزَمُ الْعَجْزُ فَالِاسْتِطَاعَةُ الْمُقَدَّمَةُ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ وَالْمَعِيَّةُ لِمَدْخَلِيَّةِ الْعَبْدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
قَالَ الْخَيَالِيُّ: وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ سَلَامَةَ الْأَسْبَابِ مَنَاطُ خَلْقِ اللَّهِ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عِنْدَ الْقَصْدِ بِالْفِعْلِ فَبَعْدَ السَّلَامَةِ لَا حَاجَةَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ إلَّا إلَى الْقَصْدِ (وَلَا يُكَلَّفُ الْعَبْدُ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ) أَيْ طَاقَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِمَعْنَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى