السَّمَكَ سِنِينَ ثُمَّ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعٍ حَلَالٍ فَلَمَّا مَدَّ إلَيْهِ يَدَهُ لِيَأْكُلَ أَخَذَتْ شَوْكَةٌ مِنْ عِظَامِهِ أُصْبُعَهُ فَذَهَبَتْ فِي ذَلِكَ يَدُهُ فَقَالَ يَا رَبِّ هَذَا لِمَنْ مَدَّ يَدَهُ بِشَهْوَةٍ إلَى حَلَالٍ فَكَيْفَ بِمَنْ مَدَّ إلَى حَرَامٍ وَفِي بَابِ الْوَرَعِ مِنْهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كُنَّا نَدَعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ بَابًا مِنْ الْحَرَامِ.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَفِيهِ أَيْضًا قِيلَ إنَّ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ مَكَثَ بِالْبَصْرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ تَمْرِ الْبَصْرَةِ وَلَا مِنْ رُطَبِهَا حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَذُقْهُ قَالَ يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ هَذَا بَطْنِي مَا نَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا زَادَ فِيكُمْ وَيُقَالُ جَاءَتْ أُخْتُ بِشْرٍ الْحَافِيِّ إلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَتْ إنَّا نَغْزِلُ عَلَى سُطُوحِنَا بِشُعْلَةِ الْمَلِكِ هَلْ يَجُوزُ لَنَا الْغَزْلُ فِي شُعَاعِهَا.
وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْنَا الْمَشَاعِلُ الظَّاهِرِيَّةُ فَقَالَ مَنْ أَنْتِ عَافَاك اللَّهُ قَالَتْ أُخْتُ بِشْرٍ الْحَافِيِّ فَبَكَى أَحْمَدُ وَقَالَ مِنْ بَيْتِكُمْ يَخْرُجُ الْوَرَعُ الصَّادِقُ لَا تَغْزِلِي فِي شُعَاعِهَا وَرَهَنَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ سَطْلًا لَهُ عِنْدَ بَقَّالٍ فَلَمَّا أَرَادَ فِكَاكَهُ أَخْرَجَ الْبَقَّالُ إلَيْهِ سَطْلَيْنِ وَقَالَ خُذْ أَيَّهُمَا لَك فَقَالَ أَشَكْلَ سَطْلِي فَهُوَ لَك وَالدَّرَاهِمُ لَك فَقَالَ الْبَقَّالُ سَطْلُك هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَدْت اخْتِبَارَك فَلَمْ يَأْخُذْ وَكَانَ رَجُلٌ يَكْتُبُ رُقْعَةً فِي بَيْتٍ بِكِرَاءٍ فَأَرَادَ أَنْ يُتَرِّبَ الْكِتَابَ مِنْ جِدَارِ الْبَيْتِ فَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ الْبَيْتَ بِالْكِرَاءِ ثُمَّ إنَّهُ خَطَرَ بِبَالِهِ لَا حَظْرَ لِهَذَا فَتَرَّبَ الْكِتَابَ فَسَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ سَيَعْلَمُ الْمُسْتَخِفُّ بِالتُّرَابْ مَا يَلْقَاهُ غَدًا مِنْ طُولِ الْحِسَابْ.
وَقِيلَ رَجَعَ ابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ مَرْوَ إلَى الشَّامِ فِي قَلَمٍ اسْتَعَارَهُ وَلَمْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ.
وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ لَا يَنَامُ مُضْطَجِعًا وَلَا يَأْكُلُ سَمِينًا وَلَا يَشْرَبُ بَارِدًا سِتِّينَ سَنَةً فَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ بَعْدَمَا مَاتَ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك فَقَالَ خَيْرًا غَيْرَ أَنِّي مَحْبُوسٌ عَنْ الْجَنَّةِ بِإِبْرَةٍ اسْتَعَرْتهَا فَلَمْ أَرُدَّهَا وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يُجَاوِرُ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ فَقِيرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى دُهْنِ السِّرَاجِ فَيُطَالِعُ كِتَابَهُ بِضِيَاءِ الْقَمَرِ وَالْقَنَادِيلُ تُضِيءُ إلَى الْفَجْرِ قِيلَ لَهُ لَوْ نَظَرْت بِضِيَاءِ الْقَنَادِيلِ لَوَضَحَ الْخَطُّ وَالنَّظَرُ بِضِيَاءِ الْقَمَرِ يُنْقِصُ نُورَ بَصَرِك فَقَالَ الْقِنْدِيلُ لِلْكَعْبَةِ لَا لِمُطَالَعَةِ الْكُتُبِ فَالنَّظَرُ الْمُفَرِّقُ لِلْبَصَرِ مِنْ الْمُبَاحِ خَيْرٌ مِنْ النَّظَرِ الْمَزِيدِ نُورُهُ مِنْ غَيْرِهِ (وَالطَّيِّبَاتِ) مِنْ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَسَاكِنِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ السَّادَاتِ (وَالْخَتْمِ) عُطِفَ عَلَى الِاجْتِنَابِ أَوْ صِيَامِ الدَّهْرِ (فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ بَلْ مَرَّاتٍ) كَثِيرَةً كَمَا قَدَّمْنَا.
وَأَيْضًا فِي الْمُنَاوِيِّ عَنْ الْقَسْطَلَّانِيِّ أَخْبَرَنِي الْبُرْهَانُ بْنُ شَرِيفٍ أَنَّهُ يَخْتِمُ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ خَتْمَةً وَالنَّجْمُ الْأَصْبَهَانِيُّ رَأَى رَجُلًا مِنْ الْيَمَنِ خَتَمَ فِي شَوْطٍ وَأُسْبُوعٍ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الشَّعْرَانِيُّ خَتَمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ خَتْمَتَيْنِ وَأَخْبَرَنَا عَنْ الْمَرْصَفِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ فِي أَيَّامِ سُلُوكِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ خَتْمٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ خَتْمٍ كُلَّ دَرَجَةٍ أَلْفُ خَتْمٍ وَهَذَا لَا يَتَيَسَّرُ إلَّا بِفَيْضٍ رَبَّانِيٍّ وَمَدَدٍ رَحْمَانِيٍّ انْتَهَى.
قِيلَ وَلَا يُسْتَبْعَدُ هَذَا عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ غَلَبَتْ رُوحَانِيَّاتُهُمْ عَلَى جُسْمَانِيَّاتهمْ وَالرُّوحُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ - وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - ثُمَّ نَقُولُ حَاصِلُ سُؤَالِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْقُولَاتِ عَنْ السَّلَفِ مُعَارِضَةٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعَارُضَ لَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ فَلَا يُقَالُ الْقِيَاسُ مُعَارِضٌ لِلنَّصِّ وَلِلْإِجْمَاعِ بَلْ ثُبُوتُ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِي كَوْنَ تِلْكَ الْمَنْقُولَاتِ مُحَرَّمَاتٍ وَارْتِكَابُ مَنْهِيَّاتٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ التَّعْبِيرُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْسَارِ نَحْوُ أَنْ يُقَالَ فَبَعْدَ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ مَا وَجْهُ مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ كَذَا وَكَذَا أَوْ يُقَالَ لَيْسَ النُّصُوصُ وَالْأَدِلَّةُ كَمَا فُهِمَتْ وَإِلَّا فَمَا وَجْهُ مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ إلَّا أَنْ يُقَالَ التَّعَارُضُ هُنَا تَجَوُّزٌ بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ فَتَأَمَّلْ.
وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِجَعْلِ تَصْوِيرِ السُّؤَالِ هَكَذَا: دَلِيلُكُمْ وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ لُزُومِ الِاقْتِصَادِ وَلَكِنْ عِنْدَنَا مَا يَنْفِيهِ مِنْ وُقُوعِ الْإِفْرَاطِ مِنْ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَدِلَّةٌ عَلَيْهِ لَمَا فَعَلُوا وَالِاجْتِرَاءُ عَلَى جَهَالَتِهِمْ أَوْ الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِ عِلْمِهِمْ لَيْسَ بِجَائِزٍ بَعِيدٌ عَنْ الْإِنْصَافِ (قُلْنَا) فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ (أَوَّلًا) .
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ أَوَّلًا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ دَلِيلُ الْأُولَى وَالْأَوَائِلِ فَمَا وَجْهُ تَنْوِينِهِ قُلْنَا إنَّهُ هُنَا ظَرْفٌ بِمَعْنَى قَبْلُ وَهُوَ حِينَئِذٍ مُنْصَرِفٌ وَلَا وَصْفِيَّةَ لَهُ أَصْلًا، وَإِذَا جَعَلْته صِفَةً لَمْ تَصْرِفْهُ تَقُولُ لَقِيتُهُ عَامًا