أَوَّلَ أَيْ قَبْلَ الْجَوَابَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ (لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْوَحْيِ) ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَالظَّاهِرُ مَتْلُوًّا أَوْ غَيْرَ مَتْلُوٍّ فَتَأَمَّلْ فِيهِ (وَغَيْرُهُ) أَيْ وَبَيْنَ غَيْرَ الْوَحْيِ كَالْمَنْقُولِ الْمَذْكُورِ عَنْ السَّلَفِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى التَّعَارُضِ عَلَى التَّمَاثُلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ (حَتَّى نَحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ) بَلْ اللَّازِمُ فِيهِ الْأَخْذُ بِالْأَقْوَى وَتَرْكُ الْأَضْعَفِ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ (فَعَلَيْك الْأَخْذَ بِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) وَأَنْتَ مَأْمُورٌ بِإِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا بِغَيْرِهِ كَالسَّلَفِ لَكِنْ يُرَادُ أَنَّا سِيَّمَا الْمُقَلَّدِينَ مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ الْأَعْلَمِ وَالْأَوْرَعِ وَأَنَّهُ قَدْ قُرِّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ دَلِيلَ الْمُقَلِّدِ لَيْسَ إلَّا قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ وَكَذَا فِعْلُهُ كَمَا فِي الْأُصُولِ.
وَأَمَّا النُّصُوصُ فَمُخْتَصَّةٌ بِالْمُجْتَهِدِ وَقُرِّرَ أَيْضًا إذَا تَخَالَفَ النَّصُّ مَعَ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ يُقَدَّمُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ لِجَوَازِ كَوْنِ النَّصِّ مُؤَوَّلًا أَوْ مُخَصَّصًا أَوْ مَنْسُوخًا يَعْرِفُهَا الْمُجْتَهِدُ دُونَ الْمُقَلِّدِ وَأَنَّ هَذَا يُورِثُ تَضْلِيلَ السَّلَفِ وَسُوءَ الظَّنِّ بِهِمْ فَلَعَلَّهُ لَمَّا ذُكِرَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ أَوْ رَدَّ الْجَوَابَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَيَكُونَانِ تَسْلِيمِيَّيْنِ.
(وَثَانِيًا أَنَّا نَمْنَعُ صِحَّةَ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ إذَا لَمْ يَقَعْ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الْأُمُورِ الْمَنْقُولَةِ (بَحْثٌ) طَلَبٌ وَتَفَحُّصٌ (وَتَفْتِيشٌ) يُوجِبُ صِحَّةَ الصَّدَرِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ كَالتَّوَاتُرِ وَالشُّهْرَةِ وَالْوَاحِدُ بِشُرُوطِ الرِّوَايَةِ مِنْ نَحْوِ الْعَدْلِ وَالضَّبْطِ وَالْعَدَدِ (بَلْ أَكْثَرِهَا خَالٍ عَنْ) أَصْلِ (السَّنَدِ) فَضْلًا عَنْ وَصْفِهِ كَالْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ فَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ فِيهِ تَلْقِينًا بِالْجَوَابِ إذْ تَقَيُّدُ الْأَكْثَرِيَّةِ يَقْتَضِي اعْتِرَافَ مَسْأَلَةِ الْخَصْمِ فِي جَانِبِ الْأَقَلِّ وَهُوَ يَكْفِي لَهُ فَالتَّفْسِيرُ أَنَّ بَعْضَهَا أَيْ الْأَقَلَّ مُشْتَمِلٌ لِلسَّنَدِ الصَّحِيحِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ (بِخِلَافِ الْكِتَابِ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ كُلُّهُ (وَالْأَخْبَارُ النَّبَوِيَّةُ) أَيْ الْمَذْكُورَةُ هُنَا فَلَا يَضُرُّهُ وُجُودُ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ بَلْ الْمَوْضُوعَةُ أَنْفُسُهَا وَأَنَّ الْمَذْكُورَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ كُتُبٍ صَحِيحَةٍ مُتَعَاضِدَةٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ بَلْ لِكَوْنِ مَآلِ مَعَانِيهَا رَاجِعًا إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ يَرْتَقِي إلَى الْمَشْهُورِ بِحَسَبِ الْمَعْنَى فَيُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ وَلَا يَضُرُّ عَدَمَ مَعْلُومِيَّةِ وُجُودِ شُرُوطِ الرِّوَايَةِ فِي بَعْضِهَا بَلْ غَايَتُهَا بَيَانَاتٌ وَتَفْسِيرَاتٌ لِمُجْمَلَاتِ الْكِتَابِ وَخَفَايَاتِهَا.
(فَلَا مُسَاوَاةَ فِي النَّقْلِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ) هَذَا عَلَى تَسْلِيمِ إمْكَانِ التَّعَارُضِ بَيْنَ أَصْلِ الْوَحْيِ وَبَيْنَ أَصْلِ الْمَنْقُولِ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا فَلَا يُرَدُّ أَنَّهُ يُوهِمُ صِحَّةَ التَّعَارُضِ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا سَنَدًا لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ لِبَعْضِ الْمَنْقُولَاتِ السَّلَفِيَّةِ سَنَدًا صَحِيحًا كَمِثْلِ بَعْضِ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ آنِفًا بِقَوْلِهِ بَلْ أَكْثَرُهَا خَالٍ عَنْ السَّنَدِ نَعَمْ التَّعَاضُدُ الْمَعْنَوِيُّ بَاقٍ فِي الْأَخْبَارِ دُونَ الْمَنْقُولَاتِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ الْجَوَابِ الثَّانِي رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ صُدُورِ تِلْكَ الْمَنْقُولَاتِ مِنْهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ عَدَمُ التَّوَاتُرِ بَلْ الشُّهْرَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَشْخَاصِهِمْ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَوْعِهِمْ إذْ التَّوَاتُرُ الْمَعْنِيُّ ظَاهِرٌ فِي جِنْسِهِمْ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ أَيْضًا مُؤَدٍّ إلَى ارْتِفَاعِ الْأَمْنِ وَالِاعْتِمَادِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى الْكُتُبِ سِيَّمَا الْمُعْتَبَرَةِ كَقَاضِي خان وَالرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ وَأَيْضًا حَاصِلُ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ إبْقَاءُ الْمَنْعِ وَعَدَمُ الْجَوَازِ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّقَيُّدِ وَالِاهْتِمَامِ بِاسْتِغْرَاقِ الْأَوْقَاتِ فِي عِبَادَةِ الْمَعْبُودِ الَّذِي لَمْ يَخْلُقْ الثَّقَلَيْنِ إلَّا لِلْعِبَادَةِ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ الْإِنْصَافِ بَلْ ظَاهِرُ بَعْضِ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] ، {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] ، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] .
وَبَعْضُ صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ مِنْ «إيثَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثْرَةَ الْجُوعِ عَلَى نَفْسِهِ إلَى أَنْ يَرْبِطَ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ وَقِيَامَهُ اللَّيْلَ إلَى أَنْ تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إلَى أَنْ انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ وَفِي رِوَايَةٍ إلَى أَنْ تَشَقَّقَتْ قَدَمَاهُ» يَقْتَضِي وُقُوعَ ذَلِكَ أَيْضًا وَبِمَا حُرِّرَ تَبَيَّنَ التَّعَارُضُ الْحَقِيقِيُّ بَيْنَ النُّصُوصِ فَلَعَلَّ الْأَوْلَى التَّوْفِيقُ بِنَحْوِ أَنْ يُقَالَ الْمَنْعُ لِلْمُبْتَدِئِينَ الَّذِينَ إذَا أَتَوْا تِلْكَ الْكَثْرَةَ فِي الِابْتِدَاءِ لَزِمَ إلْقَاءُ أَنْفُسِهِمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَالْجَوَازُ لِلْمُنْتَهِينَ الَّذِينَ صَارَتْ تِلْكَ الْكَثْرَةُ لَهُمْ كَالْغِذَاءِ بِلَذَّةٍ بِلَا ثَقْلَةٍ وَكُلْفَةٍ فَلَعَلَّ