وَقْتَ دُخُولِ النَّاسِ مَضَاجِعَهُمْ فَخَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَاشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى السَّهَرِ وَأَلْقَيْت حَصَيَاتٍ فِي نَعْلَيْهِ وَرَجَعْت فَعِنْدَ قُرْبِ الصُّبْحِ رَجَعْت فَوَجَدْته فِي مَكَانِهِ يَدْعُو وَيَبْكِي وَنَظَرْت نَعْلَيْهِ وَالْحَصَيَاتُ بَاقِيَةٌ فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَدَّى وِرْدَهُ ثُمَّ شَرَعَ فِي مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ، فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ جَلَسَ لَهَا إلَى الْعَصْرِ ثُمَّ إلَى الْمَغْرِبِ فَلَمَّا صَلَّاهَا رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ فَأَفْطَرَ وَجَدَّدَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ إلَى أَنْ أَخَذَ النَّاسُ مَضْجَعَهُمْ ثُمَّ خَرَجَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَامَ إلَى الْفَجْرِ ثُمَّ إلَى الظُّهْرِ كَالْأَمْسِ قَالَ فَلَازَمْته إلَى أَنْ عَلِمْت أَنَّهُ عَادَتُهُ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَمَا رَأَيْته بِالنَّهَارِ مُفْطِرًا وَلَا بِاللَّيْلِ نَائِمًا وَلَكِنْ فِي أَيَّامِ التَّعْطِيلِ فِي الضَّحْوَةِ يَأْخُذُ نَوْمَةً خَفِيفَةً.
قَالَ مِسْعَرٌ فَبَعْدَ ذَلِكَ لَازَمْت مَجْلِسَهُ وَمَسْجِدَهُ حَتَّى رَوَى أَبُو مُعَاذٍ أَنَّ مِسْعَرًا مَاتَ فِي مَسْجِدِ أَبِي حَنِيفَةَ سَاجِدًا.
وَعَنْ أَبِي الْجَمَالِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَا رَأَيْته لَيْلَةً وَضَعَ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَفْعَلُ قَيْلُولَةً تَارَةً
(كَصِيَامِ الدَّهْرِ) أَيْ جَمِيعِ الْعُمْرِ سِوَى الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ (وَ) صِيَامِ (الْوِصَالِ) أَيْ مُتَابَعَةِ الْأَيَّامِ بِلَا إفْطَارٍ بَيْنَهَا، وَقَدْ سَمِعْت آنِفًا الْوَاصِلِينَ وَمُدَّةَ وِصَالِهِمْ كَوِصَالِ أَبِي بَكْرٍ إلَى السِّتَّةِ وَوِصَال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ إلَى السَّبْعَةِ.
(وَالْقِيَامُ فِي كُلِّ اللَّيَالِي) وَأَيْضًا كَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حَفِظْت الْقُرْآنَ وَأَنَا ابْنُ سِتِّ سِنِينَ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكُنْت أَصُومُ الدَّهْرَ وَقُوتِي خُبْزُ الشَّعِيرِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ عَزَمْت أَنْ أَطْوِيَ ثَلَاثَةَ لَيَالٍ ثُمَّ أُفْطِرَ لَيْلَةً ثُمَّ خَمْسًا ثُمَّ سَبْعًا ثُمَّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَمَكَثْت عَلَيْهِ عِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ خَرَجْت أَسِيحُ فِي الْأَرْضِ سِنِينَ ثُمَّ رَجَعْت إلَى تُسْتَرَ وَكُنْت أَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ كَذَا فِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ.
وَفِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ كَانَ يُحْيِي اللَّيَالِيَ كُلَّهَا مِنْ التَّابِعِينَ وَتَبَعِ التَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَعَلْقَمَةَ وَحَمَّادٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَفُضَيْلٍ وَطَاوُسٍ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَعَلِيِّ بْنِ بَكَّارَ وَابْنِ عَاصِمٍ وَأَبِي جَابِرٍ وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَيَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ وَابْنِ الْمِنْهَالِ كَانُوا كُلُّهُمْ لَا يَضَعُونَ جَنْبَهُمْ عَلَى الْفِرَاشِ فِي اللَّيَالِيِ وَيُصَلُّونَ الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ فَيَكُونُ قِيَامُهُمْ غِذَاءَ رُوحِهِمْ وَحَيَاةَ قُلُوبِهِمْ وَصِيَانَةَ حَوَاسِّهِمْ وَلِسَانِهِمْ عَنْ التَّعْطِيلِ إلَى أَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ وَالسَّهَرُ لَذِيذَةً وَالنَّوْمُ مَعْصِيَةً وَقَطِيعَةً عَنْ رَبِّهِمْ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد أَنَّ السَّلَفَ إذَا بَلَغَ أَحَدُهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً طَوَى فِرَاشَهُ وَلَمْ يَضَعْ فِي جَنْبِهِ فِي اللَّيَالِيِ إلَّا بِقَيْلُولَةٍ بَعْدَ صَلَاةِ الضُّحَى وَكَذَا مِنْ النِّسْوَانِ لَا تُعَدُّ كَرَابِعَةَ وَمَيْمُونَةَ الزِّنْجِيَّةِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ وِرْدًا بِاللَّيْلِ وَهُوَ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ فَرُبَّمَا يَخْتِمُهُ فِي رَكْعَتَيْنِ وَرُبَّمَا يَخْتِمُهُ فِي جَمِيعِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَوْ خَتَمَهُ قَبْلَ تَمَامِ اللَّيْلِ يَدْعُو وَيُنَاجِي وَيَبْكِي إلَى وَقْتِ الْفَجْرِ وَعَامَّةُ نَهَارِهِ فِي الْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمِ صَائِمًا وَاَللَّهِ لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَهُ فِي وَرَعِهِ وَدِينِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَفِي قَاضِي خَانْ وَخِزَانَةِ الْمُفْتِينَ يَخْتِمُ فِي كُلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ إحْدَى وَسِتِّينَ خَتْمَةً ثَلَاثِينَ فِي أَيَّامِهِ وَثَلَاثِينَ فِي لَيَالِيهِ وَوَاحِدَةً فِي التَّرَاوِيحِ رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُ.
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ نُعَيْمٍ كُلَّمَا أَتَيْت مَسْجِدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْلًا أَسْمَعُ وُقُوعَ دُمُوعِهِ عَلَى الْحَصِيرِ كَأَنَّهُ يُمْطِرُ السَّقْفَ.
وَعَنْ الْفَرَائِدِ شَرْحِ الْكَنْزِ صَلَّى أَبُو حَنِيفَةَ صَلَاةَ الْفَجْرِ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَعَامَّةُ لَيْلِهِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ يُسْمَعُ بُكَاؤُهُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى يَرْحَمَهُ جِيرَانُهُ وَأَنَّهُ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ سَبْعَةَ آلَافِ مَرَّةً (وَالِاجْتِنَابُ عَنْ الشُّبُهَاتِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُشْتَهَيَاتُ أَيْ مَا تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ فِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَبِي تُرَابٍ النَّخْشَبِيِّ مَا تَمَنَّتْ نَفْسِي مِنْ الشَّهَوَاتِ إلَّا مَرَّةً تَمَنَّتْ خُبْزًا وَبَيْضًا وَأَنَا فِي سَفْرَةٍ فَعَدَلْت إلَى قَرْيَةٍ فَأَخَذَنِي أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَقَالُوا إنَّهُ مِنْ اللُّصُوصِ فَضَرَبُونِي سَبْعِينَ دِرَّةً ثُمَّ عَرَفُونِي فَاعْتَذَرُوا فَحَمَلَنِي وَاحِدٌ إلَى مَنْزِلِهِ فَقَدَّمَ إلَيَّ خُبْزًا وَبَيْضًا فَقُلْت لِنَفْسِي كُلِّي بَعْدَ سَبْعِينَ دُرَّةً.
وَفِيهِ أَيْضًا اشْتَهَى أَبُو الْخَيْرِ الْعَسْقَلَانِيُّ