مِنْ قَوْمٍ وَخَلَطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ)

قِيلَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْخَلْطُ نَاشِئًا مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي وَإِلَّا فَلَا يَمْلِكُ عِنْدَهُ أَيْضًا كَمَنْ غَصَبَ دَرَاهِمَ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِالْإِرْثِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ غَصَبَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ مِنْ رَجُلٍ وَعَشَرَةً مِنْ آخَرَ فَوَضَعَهُمَا فِي مَكَانِ بَعْدَ جَعْلِهِمَا فِي كِيسٍ عَلَى حِدَةٍ فَوَقَعَ الْخَلْطُ بِانْشِقَاقِ الْكِيسِ لَا يَمْلِكُ بَلْ يَبْقَى بِلَا مِلْكٍ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُوجَدَ خَلْطٌ بَعْدَهُ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَغْصُوبِ طَيِّبًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ رِوَايَةٌ مَشْهُورَةٌ طَيِّبٌ أَيْضًا، وَفِي أُخْرَى خَبِيثٌ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ، وَيَحْرُمُ التَّنَاوُلُ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْبَدَلَيْنِ لِكَوْنِهِ ضَامِنًا وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ إذَا أَكَلَ عَيْنَ الْغَصْبِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَأْكُلُ حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ بِالْمَضْغِ فَيَصِيرُ مِلْكًا لَهُ قَبْلَ الِابْتِلَاعِ، قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْخَذَ بِهَذَا كَيْ لَا يَتَجَاسَرَ الْغَاصِبُ وَالظَّلَمَةُ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَهَذَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُسْتَهْلَكَ يَكُونُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ صَالَحَ مِنْ الْمَغْصُوبِ عَلَى أَضْعَافِ قِيمَتِهِ بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ جَازَ عِنْدَهُ (وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:) (السُّلْطَانُ) الْجَائِرُ (إذَا قَدَّمَ شَيْئًا مِنْ الْمَأْكُولَاتِ إنْ اشْتَرَاهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِهِ وَلَكِنَّ الرَّجُلَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ فِي الطَّعَامِ شَيْئًا مَغْصُوبًا بِعَيْنِهِ يُبَاحُ أَكْلُهُ انْتَهَى) وَفِي مِفْتَاحِ الْعُلُومِ: إنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَالِهِ حَلَالٌ فَهُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَفِيهِ خِلَافٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَرَامُ فِيهِ غَالِبٌ فَلَا يَجُوزُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ مَا لَا أَتَيَقَّنُ بِحُرْمَتِهِ فَلِي أَنْ آخُذَهُ وَالْمُخْتَارُ إنْ كَانَ الْغَالِبُ حَرَامًا فَحَرَامٌ، وَإِنْ حَلَالًا فَمَوْضِعُ تَوَقُّفِنَا، وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأَخْذِ بَعْضٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ مَرْوَانَ وَيَزِيدَ، وَمِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَمِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ كَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ مِنْ الرَّشِيدِ أَلْفَ دِينَارٍ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَخَذَ مَالِكٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَمْوَالًا جَمَّةً وَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَقْبَلَانِ جَوَائِزَ مُعَاوِيَةَ وَأَمَّا امْتِنَاعُ آخَرِينَ فَيَدُلُّ عَلَى الْوَرَعِ دُونَ الْحُرْمَةِ

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْآخِذِينَ أَكْثَرُ مِنْ الْمُمْتَنِعِينَ فَإِنْ وُجِّهَ الرَّدُّ بِالْوَرَعِ فَكَذَا الْأَخْذُ يُوَجَّهُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ إذْ الِاحْتِمَالَاتُ أَرْبَعَةٌ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَأْخُذَ شَيْئًا وَهُوَ أَشَدُّ الْوَرَعِ

الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ مِمَّا عَلِمَ حِلَّهُ وَهُوَ مَحْمَلُ مَا أَخَذَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ الثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَ لِيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمُسْتَحَقِّينَ فَإِنَّهُ مَالٌ لَا يَتَعَيَّنُ مَالِكُهُ، وَالسُّلْطَانُ لَا يَصْرِفُهُ فِي مَحَلِّهِ فَأَخْذُهُ وَتَفْرِيقُهُ أَوْلَى، وَهَذَا مَحْمَلُ مَا أَخَذَهُ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ

الرَّابِعُ: أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَلَالٌ وَيُنْفِقُ كَمَا فِي أَكْثَرِ خُلَفَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خُذْ مَا أَعْطَاك السُّلْطَانُ فَإِنَّ مَا تَأْخُذُهُ مِنْ الْحَلَالِ أَكْثَرُ وَأَمَّا مَالُ سَلَاطِينِ زَمَانِنَا فَإِمَّا حَرَامٌ أَوْ أَكْثَرُ وَلَيْسَ فِي عَصْرِ السَّلَفِ إذْلَالٌ وَسُؤَالٌ وَلَا هُمْ يَسْكُتُونَ عَنْ الْحَقِّ لِأَجْلِ عَطَائِهِمْ، وَفِي زَمَانِنَا عَلَى الْعَكْسِ فَيُؤَدِّي الْقَبُولُ إلَى الْمَعْصِيَةِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ (وَهَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَزَادَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ) وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ إلَّا بِمِثْلِهِ وَلَمْ يُوجَدْ هَا هُنَا إلَّا غَلَبَةُ الظَّنِّ فَلَمْ يَجِبْ الِاحْتِرَازُ بَلْ يُسْتَحَبُّ، وَفِي الْخَانِيَّةِ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِ الْوَالِي لِيَكُونَ تَغَيُّرًا عَلَى الْغَاصِبِ، وَسُئِلَ عَنْ الْأَكْلِ مِنْ طَعَامِ السُّلْطَانِ وَالظَّلَمَةِ وَأَخْذُ الْجَائِزَاتِ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى عِنْدَ الْأَخْذِ وَالْأَكْلِ فَإِنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ حَلَالٌ يَأْخُذُ وَيَتَنَاوَلُ وَإِلَّا فَلَا، وَعَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْحَكِيمِ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يَأْخُذُ جَائِزَةَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ يَسْتَقْرِضُ جَمِيعَ حَوَائِجِهِ، وَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْجَائِزَةِ كَانَ يَقْتَضِي بِهَا دَيْنَهُ

وَالْحِيلَةُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا ثُمَّ يَنْقُدَ ثَمَنَهُ مِنْ أَيِّ مَالٍ أَحَبَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الْحِيلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا فَأَجَابَنِي بِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّ الْمُبْتَلَى بِطَعَامِ السُّلْطَانِ أَوْ الظَّلَمَةِ يَتَحَرَّى إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ حِلُّهُ قَبِلَهُ وَإِلَّا فَلَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ» الْحَدِيثَ، وَجَوَابُ الْإِمَامِ فِيمَنْ بِهِ وَرَعٌ وَصَفَاءُ قَلْبٍ يَنْظُرُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015