كَرْمٍ سُقِيَ بِنَهْرٍ مَذْكُورٍ، وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ ذِي النُّونِ مِنْ طَعَامٍ حَلَالٍ وَصَلَ إلَيْهِ بِيَدِ سَجَّانٍ، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ جَاءَ عَلَى يَدِ ظَالِمٍ، وَالسُّفْلَى قَرِيبَةٌ مِنْ الْوَسْوَاسِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ حَلَالٍ وَصَلَ إلَيْهِ عَلَى يَدِ زَانٍ أَوْ قَاذِفٍ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ شُرْبِ كُوزٍ صَنَعَهُ عَاصٍ أَوْ ضَارِبٌ أَوْ شَاتِمٌ فَوَسْوَاسٌ لَيْسَ بِوَرَعٍ، وَإِمَّا مَعْصِيَةٌ فِي الْعِوَضِ فَالْعُلْيَا أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا بِثَمَنٍ مَغْصُوبٍ أَوْ حَرَامٍ فَيُسَلِّمَهُ الْبَائِعُ بِطِيبِ الْخَاطِرِ فَيَأْكُلَهُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَحَلَالٌ، وَعَدَمُ الْأَكْلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا مِنْ الْوَرَعِ الْكَامِلِ، وَإِنَّمَا الْإِثْمُ بِقَضَاءِ الثَّمَنِ مِنْ الْحَرَامِ فَبَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَنْقَلِبُ حَرَامًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ التَّسْلِيمُ بِطِيبِ الْخَاطِرِ فَحَرَامٌ كَأَكْلِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ الرَّهْنِ؛ إذْ لِلْمَالِكِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ لَكِنَّ حُرْمَتُهُ دُونَ حُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ.
وَأَمَّا إذَا أَوْفَى الثَّمَنَ الْحَرَامَ أَوَّلًا ثُمَّ قَبَضَ فَإِنْ عَالِمًا بِحُرْمَتِهِ بَطَلَ حَقُّ حَبْسِهِ وَبَقِيَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ؛ إذْ مَا أَخَذَهُ لَيْسَ بِثَمَنٍ فَأَكْلُ الْمَبِيعِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حُرْمَتَهُ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ لَا يَرْضَى وَلَا يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ فَحَقُّ حَبْسِهِ بَاقٍ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ إلَى أَنْ يُبْرِئَهُ أَوْ يُوَفِّيَ مِنْ حَلَالٍ أَوْ يَرْضَى هُوَ بِالْحَرَامِ وَيُبْرِئَ فَيَصِحَّ إبْرَاؤُهُ وَلَا يَصِحُّ رِضَاهُ بِالْحَرَامِ فَالِامْتِنَاعُ مِنْ أَكْلِهِ وَرَعٌ مُهِمٌّ؛ إذْ رِضَاهُ حِينَئِذٍ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْكَرَاهَةِ الشَّدِيدَةِ، وَإِنْ جَازَ فِي الْفَتْوَى، وَالْوُسْطَى أَنْ لَا يَكُونَ الثَّمَنُ حَرَامًا لَكِنَّ الْآخِذَ يَعْنِي الْبَائِعَ يَصْرِفُهُ إلَى مَعْصِيَةٍ كَمَنْ يَجْعَلُ الثَّمَنَ عِنَبًا وَالْآخِذُ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ سَيْفًا وَهُوَ قَاطِعُ طَرِيقٍ فَلَا يَحْرُمُ حِينَئِذٍ فِي الْفَتْوَى لَكِنْ مَكْرُوهٌ فِي التَّقْوَى دُونَ الْأَوَّلِ، وَالسُّفْلَى هِيَ دَرَجَةُ الْوَسْوَاسِ كَمَا إذَا حَلَفَ إنْسَانٌ عَلَى أَنْ لَا يَلْبَسَ مِنْ غَزْلِ جَارِيَتِهِ فَبَاعَ غَزْلَهَا وَاشْتَرَى بِهِ ثَوْبًا فَهَذَا لَا كَرَاهَةَ فِيهِ فَوَرَعُهُ وَسْوَسَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ بِحَصْرٍ بَلْ تَقْرِيبٌ إلَى الْفَهْمِ فَلَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِدَقَائِق الْوَرَعِ إلَّا بِحَضْرَةِ عَالِمٍ، وَإِلَّا كَانَ مَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْأَدِلَّةِ فَإِنْ تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ فَإِنْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْحُرْمَةِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ الْحِلُّ فَجَائِزُ الْعَمَلِ وَالْوَرَعُ تَرْكُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبٌ فَجَانِبُ الْحَظْرِ رَاجِحٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ تَعَارَضَتْ الْعَلَامَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَأَنْ يُخْبِرَ عَدْلٌ بِأَنَّ هَذَا الْمَتَاعَ حَلَالٌ، وَآخَرُ حَرَامٌ فَإِنْ ظَهَرَ تَرْجِيحٌ حُكِمَ بِهِ وَلِلْوَرِعِ الِاجْتِنَابُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ يَجِبُ التَّوَقُّفُ، وَإِنْ تَعَارَضَتْ الْأَشْبَاهُ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي بِهَا مَنَاطُ الْأَحْكَامِ كَمَنْ أَوْصَى لِلْفُقَهَاءِ فَالْفَاضِلُ دَاخِلٌ قَطْعًا وَالْمُتَعَلِّمُ مُنْذُ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ غَيْرُ دَاخِلٍ قَطْعًا وَبَيْنَهُمَا دَرَجَاتٌ يَقَعُ الشَّكُّ فِيهَا فَالْمُفْتِي يُفْتِي بِحَسَبِ الظَّنِّ فَلِلْوَرِعِ الِاجْتِنَابُ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَاتُ فَإِنَّ الْمُحْتَاجَ مَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، وَالْغَنِيُّ مَنْ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا مَنْ لَهُ دَارٌ، وَأَثَاثٌ وَثِيَابٌ وَكِتَابٌ فَإِنَّ مَا هُوَ قَدْرُ الْحَاجَةِ مِنْهُ، وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُمَا، وَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالتَّقْرِيبِ وَنَحْوِهَا كَسَعَةِ الدَّارِ وَأَبْنِيَتِهَا وَعَدَدِ بُيُوتِهَا وَقَدْرِ قِيمَتِهَا وَمَحَلِّهَا وَجَارِهَا وَنَحْوِهَا فَإِنْ أَفْتَى الْمُفْتِي بِظَنٍّ وَتَخْمِينٍ فَلِلْوَرِعِ التَّوَقُّفُ، وَالْوَجْهُ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك»
(وَ) أَيْضًا الْوَرَعُ فِي زَمَانِنَا (التَّحَرُّزُ عَنْ الظُّلْمِ) وَلَوْ فِي أَقَلِّ قَلِيلٍ (وَإِيذَاءِ الْغَيْرِ) لَا سِيَّمَا حَيَوَانًا (بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ) كَانَ (بِالسُّؤَالِ) فِيمَا لَا رُخْصَةَ لَهُ فِي الشَّرْعِ (وَالِاسْتِخْدَامِ بِغَيْرِ أَجْرٍ) لَا سِيَّمَا فِي الْخِدْمَةِ الْعَزِيزَةِ (وَأَنْ يَجْعَلَ) أَيْ الْوَرِعُ فِي زَمَانِنَا أَنْ يَجْعَلَ (مَا فِي يَدِ كُلِّ إنْسَانٍ مِلْكًا لَهُ) بِلَا سُوءِ ظَنٍّ؛ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِيَّةِ (مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ) الظَّاهِرُ أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مُلْحَقَةٌ بِالْيَقِينِ فَالشَّكُّ وَالظَّنُّ لَا يُعْتَبَرَانِ (كَوْنُهُ بِعَيْنِهِ مَغْصُوبًا أَوْ مَسْرُوقًا) وَيَلْحَقُهُ نَحْوُ الرِّبَا وَالرِّشَا
(وَإِنْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ فِي مَالِهِ حَرَامًا قَالَ) فِي حَقِّهِ
(فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ أَنَّ فَقِيرًا) وَكَذَا الْغَنِيُّ (يَأْخُذُ جَائِزَةَ السُّلْطَانِ) أَيْ عَطِيَّتَهُ (مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ السُّلْطَانَ يَأْخُذُهَا غَصْبًا أَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ قَالَ: فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ خَلَطَ الدَّرَاهِمَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ) بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ (فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ) وَالتَّوَقِّي أَفْضَلُ (وَإِنْ) (دَفَعَ عَيْنَ الْغَصْبِ) أَيْ الْمَغْصُوبَ (مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ) (لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْجَوَابُ يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ إذَا غَصَبَ دَرَاهِمَ