(نَعَمْ الْوَرَعُ فِي الشُّبُهَاتِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَيْسَ كَالْوَرَعِ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ) لِتَخْفِيفِ السَّلَفِ فِي هَذَيْنِ (بَلْ هُوَ أَهَمُّ فِي الدِّينِ) ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّوَقِّي مِنْ هَذَا يُفْضِي إلَى تَحَمُّلِ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِخِلَافِ أَمْرِ الطَّهَارَةِ فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - خَاصَّةً وَلِأَنَّهُ قَرِيبٌ إلَى الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ وَسَطِيُّ الْمَسَائِلِ؛ وَلِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَهَمِّ فِي الدِّينِ (وَسِيرَةِ سَلَفِ الصَّالِحِينَ وَلَكِنْ فِي زَمَانِنَا لَا يُمْكِنُ) التَّوَرُّعُ عَنْ جَمِيعِ الشُّبُهَاتِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بَلْ إنَّمَا يُمْكِنُ الْبَعْضُ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ التَّوَرُّعُ فِي شَيْءٍ مَا؛ إذْ مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لَا يُكَلَّفُ بِهِ وَلَوْ نَدْبًا لَكِنْ يَشْكُلُ إنْ أَرَدْت عَدَمَ الْإِمْكَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَشْيَاءِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْوَرَعِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِ فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ وَإِنْ أَرَدْت بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَبَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يُمْكِنُ لِبَعْضٍ لَا يَمْتَنِعُ لِآخَرَ لِاتِّحَادِ الْكُلِّ وَاشْتِرَاكِهِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، وَأَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُ مَفْهُومِ الْوَرَعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّوَرُّعَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ، وَيُعْلَمُ الْجَوَابُ مِمَّا سَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ (بَلْ لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِالْقَوْلِ الْأَحْوَطِ فِي الْفَتْوَى وَهُوَ) أَيْ الْأَحْوَطُ فِيهَا (مَا اخْتَارَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ أَكْثَرُ مَالِ الرَّجُلِ حَلَالًا جَازَ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ وَمُعَامَلَتُهُ) ؛ إذْ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ (وَإِلَّا) وَلَوْ مُسَاوِيًا (فَلَا) تُقْبَلُ هَدِيَّتُهُ وَمُعَامَلَتُهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ عِنْدَهُ حَلَالٌ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْكُلُ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ لَا سِيَّمَا فِي صُورَةِ التَّسَاوِي، وَأَيْضًا يَرِدُ مُطْلَقًا مَا قَالُوا: الْحُرُمَاتُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ.
(قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ قَالُوا لَيْسَ زَمَانُنَا زَمَانَ) اعْتِبَارِ (الشُّبُهَاتِ) بِالِاحْتِرَازِ وَالتَّوَقِّي (وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ الْحَرَامَ الْمُعَايَنَ) بِالْحِسِّ أَوْ بِخَبَرِ الْعَدْلِ أَوْ الْعَدَدِ (وَكَذَا) قَالَ (صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي التَّجْنِيسِ، وَزَمَانُهُمَا) أَيْ زَمَانُ قَاضِي خَانْ وَالْهِدَايَةِ (قَبْلَ سِتِّمِائَةٍ وَقَدْ بَلَغَ التَّارِيخُ الْيَوْمَ) أَيْ يَوْمَ تَصْنِيفِ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْكِتَابَ (تِسْعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ) وَأَنَا أَقُولُ: بَلَغَ الْيَوْمَ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ وَمِائَةً وَأَلْفًا (وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْفَسَادَ وَالتَّغَيُّرَ يَزِيدَانِ بِزِيَادَةِ الزَّمَانِ لِبُعْدِهِ عَنْ عَهْدِ النُّبُوَّةِ) لِحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» لَكِنْ يَشْكُلُ بِحَدِيثِ مَثَلُ «أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» وَالتَّوْفِيقُ أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْأَوَّلِ بِنَيْلِ شَرَفِ قُرْبِ الْعَهْدِ وَلُزُومِ سُنَنِ الْعَدْلِ وَالصِّدْقِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا كَثْرَةُ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَنَيْلُ الدَّرَجَاتِ فَلَا يُدْرَى أَنَّ الْأَوَّلَ خَيْرٌ لِمَا ذُكِرَ، أَمْ آخِرُ الْأَمَةِ خَيْرٌ لِلْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَالطَّاعَةِ وَالرَّغْبَةِ مَعَ انْقِضَاءِ زَمَنِ مُشَاهَدَةِ آثَارِ النُّبُوَّةِ وَالْمُعْجِزَاتِ كَمَا فِي التَّلْوِيحِ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ؛ إذْ الطَّاعَةُ وَالرَّغْبَةُ يُنَافِيَانِ الْفَسَادَ وَالتَّغَيُّرَ، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِإِنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَيْرِيَّةُ الْأَوَّلِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ مُشْتَرَكُ الِاحْتِمَالِ؛ إذْ يَجُوزُ الْعَكْسُ.
وَأَيْضًا مَا فِي الْفَيْضِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ «أُمَّتِي أُمَّةٌ مُبَارَكَةٌ لَا يُدْرَى أَوَّلُهَا خَيْرٌ أَمْ آخِرُهَا» مِنْ