الْقَطْعِ بِخَيْرِيَّةِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُمْ نَصَرُوهُ وَآوُوهُ وَجَاهَدُوا مَعَهُ، وَعَدَمُ الدِّرَايَةِ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُؤَيِّدُ الْإِشْكَالَ كَقَوْلِهِ فِيهِ أَيْضًا وَجْهُ عَدَمِ الدِّرَايَةِ تَقَارُبُ أَوْصَافِهِمْ وَتَشَابُهُ أَفْعَالِهِمْ فَلَا يَكَادُ يُمَيِّزُ النَّاظِرُ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا فِي الْفَضْلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيُحْكَمُ بِالْخَيْرِ لِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَلِذَا قِيلَ هُمْ كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفُهَا وَأَيْضًا قَالَ فِي الْفَيْضِ عَنْ الْكَلَابَاذِيِّ وَغَيْرِهِ فِي الْمَحَلِّ الْمَزْبُورِ، وَأَمَّا خَبَرُ «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي» فَخَاصٌّ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ، وَالْمُرَادُ فِي قَرْنِي كَالْعَشَرَةِ وَأَضْرَابِهِمْ، وَأَمَّا سِوَاهُمْ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَاقَ لَهُمْ أَفَاضِلُ أَوَاخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَاَلَّذِينَ يَنْصُرُونَ الْمَسِيحَ وَيُقَاتِلُونَ الدَّجَّالَ فَهُمْ أَنْصَارُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَيْضًا فِي الْفَيْضِ فِي شَرْحِ «خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَخُونُونَ» الْحَدِيثَ.
ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّ الصَّحْبَ أَفْضَلُ مِنْ الْجَمِيعِ، وَعَلَيْهِ كَثِيرٌ لَكِنْ ذَهَبَ جَمْعٌ كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضِهِمْ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ مَثَلُ «أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ» الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: وَيَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ الْقَطْعُ بِأَفْضَلِيَّةِ أَعْرَابِيٍّ جِلْفٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ إلَّا مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ، وَلَمْ يُخَالِطْ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ عَلَى مِثْلِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَا فِي حَفِيدِ السَّعْدِ عَلَى النَّوَوِيِّ أَنَّ حَدِيثَ «مَثَلُ أُمَّتِي» ضَعِيفٌ فَيَرُدُّهُ مَا فِي الْفَيْضِ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ حَاصِلُهُ أَنَّهُ وَإِنْ ضَعِيفًا مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ بَلْ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عِنْدَ الْهَيْثَمِيِّ لَكِنْ عِنْدَ ابْنِ حَجَرٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ لَهُ طَرِيقٌ يَرْتَقِي إلَى الصِّحَّةِ كَمَا أُشِيرَ أَيْضًا آنِفًا وَأَيْضًا عِنْدَ الْمُنْذِرِيِّ بِإِسْنَادٍ أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ.
وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَيْضًا عِنْدَ حَدِيثِ «مَثَلُ أُمَّتِي» عَنْ الْبَيْضَاوِيِّ كَمَا اجْتَهَدَ الْأَوَّلُونَ فِي التَّأْسِيسِ وَالتَّمْهِيدِ اجْتَهَدَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي التَّجْرِيدِ وَالتَّلْخِيصِ وَصَرَفُوا عُمُرَهُمْ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ فَكُلٌّ مَغْفُورٌ، وَسَعْيُهُ مَشْكُورٌ، وَأَجْرُهُ مَوْفُورٌ، وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَخَيْرِيَّةُ حَدِيثِ «خَيْرُ النَّاسِ» بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَجْمُوعِ لَا الْأَفْرَادِ وَلَوْ سَلِمَ كُلُّ ذَلِكَ فَإِنَّ حَدِيثَ «أُمَّتِي أُمَّةٌ مُبَارَكَةٌ» لَا كَلَامَ فِي صِحَّتِهِ بَلْ قَالَ فِي الْفَيْضِ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ ثُمَّ أَقُولُ: لَعَلَّ إطْلَاقَ حَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ» مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَكْثَرِ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ وَحَدِيثُ «مَثَلُ أُمَّتِي» بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت قَوْلَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ الْمُجْمَعِ عَلَى جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ: لَقَدْ أَدْرَكْنَا النَّاسَ وَهُمْ الصَّحَابَةُ كُنَّا فِي جَنْبِهِمْ لُصُوصًا، وَقَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ: لَوْ رَآنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَالُوا هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ.
وَأَمَّا فِتَنُ نَحْوِ يَوْمِ الدَّارِ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَفَسَادَاتِ يَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ فَقَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الصَّلَاحِ فِي زَمَنِهِمْ كَمَا قِيلَ
قَلِيلٌ إذَا عُدُّوا ... كَثِيرٌ إذَا شَدُّوا
وَكَمَا قِيلَ أَيْضًا
إنَّ الْكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلَادِ وَإِنْ ... قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلُّوا وَإِنْ كَثُرُوا
(فَالْوَرَعُ وَالتَّقْوَى فِي زَمَانِنَا فِي حِفْظِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ) مِنْ آفَاتِهَا الْمَذْكُورَةِ كُلٌّ فِي مَبَاحِثِهَا لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ حَاصِلِ مَا ذُكِرَ نَفْيُ التَّحَرُّزِ عَنْ الشُّبُهَاتِ مَا لَمْ يَعْلَمْ حُرْمَةَ الْأَكْثَرِ أَوْ الْمُسَاوَاةَ فِي أَحَدٍ وَمَا لَمْ يُعَايِنْ الْحَرَامَ وَحَصْرُ التَّحَرُّزِ وَالتَّقْوَى بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالْكُلُّ مَنْظُورٌ فِيهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِحَدِيثِ «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» الْحَدِيثَ وَقَدْ قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ مَدَارُ أَمْرِ الشَّرْعِ وَقُطْبُ الْأَحْكَامِ
وَلِحَدِيثِ «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» أَيْ دَعْ مَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ إلَى مَا لَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْحَلَالِ الْبَيِّنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَرَعُ كُلُّهُ فِي تَرْكِ مَا يَرِيبُ إلَى مَا لَا يَرِيبُ، وَفِيهِ عُمُومٌ يَقْتَضِي أَنَّ الرِّيبَةَ تَقَعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَأَنَّ تَرْكَ الرِّيبَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَرَعٌ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَأَصْلٌ فِي الْوَرَعِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْيَقِينِ وَرَاحَةٌ مِنْ ظُلَمِ الشُّكُوكِ وَالْأَوْهَامِ الْمَانِعَةِ مِنْ نُورِ الْيَقِينِ وَأَيْضًا لِحَدِيثِ «الْوَرِعُ الَّذِي يَقِفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ» أَيْ يَشْتَبِهُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ أَوْ يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِلَا رُجْحَانٍ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ عَرَفْت مِمَّا ذُكِرَ أَيْضًا لَمَّا عَرَفْت الْعُمُومَ وَأَنَّ الصُّعُوبَةَ فِيمَا ذُكِرَ لَيْسَتْ بِأَخَفَّ مِمَّا قَبْلَهُ فَمَا وَجْهُ