والحربية ضد المسلمين، فلو ترك المسلمون فوائد أموالهم في تلك البنوك، فإن ذلك تقوية لهم. وإن هذه الظروف قد تجعلني أميل إلى القول بأن المسلمين يجوز لهم أن يأخذوا فوائد ودائعهم، ولكن لا ينبغي أن يصرفوا مبالغ الفائدة في حاجاتهم، بل ينبغي أن يصرفوها في وجوه البر، فإن ذلك يقلل من الأضرار التي يعانيها المسلمون بإيداع أموالهم عندهم. والمسألة مطروحة لدى العلماء للبت فيها.
الإيداع في الحساب الجاري من البنوك الربوية:
أما الإيداع في الحساب الجاري من البنوك الربوية، فقد أسلفنا أن البنوك لا تدفع للمودعين في هذا الحساب أية فائدة، فالإيداع فيه لا يستلزم الدخول في عقد قرض ربوي. فينبغي أن يجوز من هذه الجهة، ولكن قد يستشكله بعض العلماء المعاصرين بأنه وإن لم يكن قرضا ربويا، ولكن فيه إعانة للبنك في المعاملات الربوية؛ لأن من المعلوم أن البنك الربوي لا يمسك هذه الودائع جامدة، وإنما يستثمرها في القروض الربوية، فيصير المودع للبنك في ممارسته الربوية.
ولكن هذا الإشكال يمكن أن يزال بوجوه:
1- إن المعمول به في جميع المصارف أن البنك لا يصرف جميع ودائع الحساب الجاري في إنجاز أعماله، وإنما يمسك منها نسبة كبيرة ليمكن له تجاوب متطلبات المودعين كل يوم، وبما أن الودائع كلها مختلطة بعضها ببعض، فلا يمكن الجزم لمودع واحد أن ودائعه مصروفة في معاملة ربوية.
2- إن للبنك مصاريف كثيرة، وليست جميع هذه المصاريف محظورة شرعا، فمنها ما لا حرمة فيها، ولا يمكن الجزم لمودع ما أن وديعته تستخدم لمصروف لا يحل.
3- إن القرض اللاربوي عقد جائز شرعا، وإن النقود لا تتعين
بالتعيين في العقود الصحيحة، كما تقرر في محله، وإن النقود التي أودعها أحد في الحساب الجاري للبنك لم تعد ملكا له، وإنما صارت ملكا للبنك بحكم الإقراض، فتصرف البنك في تلك النقود ليس تصرفا في ملك المودع، وإنما هو تصرف في ملكه، فلا ينسب هذا التصرف إلى المودع.
4- إن الإعانة على المعصية، وإن كانت حراما، ولكن لها ضوابط ذكرها الفقهاء، وليس هذا موضع بسطها (?) ، ولوالدي العلامة المفتي محمد شفيع رحمه الله تعالى في ذلك رسالة مستقلة جمع فيها النصوص الفقهية الواردة في مسألة الإعانة، ثم توصل إلى تنقيح الضابط فيها بما يلي: (إن الإعانة على المعصية حرام مطلقا بنص القرآن، أعني قوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2] . وقوله تعالى: {فلن أكون ظهيرا للمجرمين} [القصص:17] . ولكن الإعانة حقيقة هي ما قامت المعصية بعين فعل المعين، ولا يتحقق إلا بنية الإعانة أو التصريح بها، أو تعينها في استعمال هذا الشيء، بحيث لا يحتمل غير المعصية، وما لم تقم المعصية بعينه لم يكن من الإعانة حقيقة، بل من التسبب. ومن أطلق عليه لفظ الإعانة فقد تجوز، لكونه صورة إعانة، كما مر من السير الكبير. ثم السبب إن كان سببا محركا وداعيا إلى المعصية، فالتسبب فيه حرام، كالإعانة على المعصية بنص القرآن كقوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله} [الأنعام: 108] وقوله تعالى: {فلا تخضعن بالقول} [الأحزاب: 32] وقوله تعالى: {ولا تبرجن} [الأحزاب:33] . وإن لم يكن محركا وداعيا، بل موصلا محضا،