وبالتوازي مع استخدام الوسائل السابقة في زيادة الإيمان بالقرآن علينا أن نبدأ التعامل الجديد معه بأن يكون هدفنا هو تفهمه والتأثر به حتى يزداد الإيمان في قلوبنا ويضعف الهوى ومن ثم يحدث التغيير.
وبلا شك أن أهم وسيلة للانتفاع بالقرآن هي وجود الرغبة الصادقة في الانتفاع بالقرآن ..
هذه الرغبة علينا أن نترجمها بالدعاء والإلحاح على الله عز وجل بأن يفتح لنا أبواب الفهم والتأثر بالقرآن.
وفي هذا المعنى يقول الحارث المحاسبي:
فإن طلبت الفهم بصدق أقبل الله عليك بالمعونة ..
واعلم أنه لا يثقل فهم كلامه إلا على من تعطَّل قلبه ألا يسمع، فإن علم - سبحانه - من التالي لكتابه صدق ضميره، وعنايته بجمع همّه للفهم، أفهمه .. ألا تسمعه يقول: {إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُّؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70].
فإذا أقبلت على الله تعالى بصدق نية ورغبة لفهم كتابه، متوكلا عليه أنه هو الذي يفتح لك الفهم - لا على نفسك - لم يخيبك من الفهم والعقل عنه إن شاء الله (?).
أخي: الكثير منا يدعي أنه يريد تَفهُّم القرآن، والتأثر به، والاغتراف من منابع إيمانه، وشفاء أمراض قلبه من خلاله.
ولكن كما نعلم: فالبيَّنة على من ادعى ..
فما هي بينتك في هذا الادعاء؟!
إن أعظم بينة هي الإلحاح على الله بأن يفتح لنا أبواب رحمته، ليحدث الوصال بين القلب والقرآن.
أو بعبارة أخرى:
علينا أن نكون صادقين مع الله حينما نقدم له طلب الانتفاع بالقرآن، وأهم مظهر لذلك هو أن ندعوه - سبحانه - دعاء المضطر الذي يخرج دعاؤه من أعماق أعماق قلبه، كالذي تتقاذفه الأمواج في البحر، فأخذ يصارع الغرق، وليس لديه شيء يتعلق به إلا أمله في الله بأن يستجيب تضرعه، وينقذه من الموت.
واعلم - أخي - أن مفتاح الإجابة هو التضرع والحرقة واستشعار الاحتياج الماسّ لله عز وجل.
يقول ابن رجب: وعلى قدر الحرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء (?).
وتذكر - أخي- قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» (?).
وعلينا ألا نكتفي بالدعاء والاستغاثة مرة أو مرتين، بل لا بد من الإلحاح والإلحاح على الله بدعاء المضطر مرات ومرات حتى ينفتح الباب.
فالله عز وجل يسمع دعاءنا، ويقدر على إجابته - وإجابة جميع الخلائق - من أول مرة، ولكنه يريد أن يرى منا الصدق في الطلب، وأننا جادون فيما ندَّعى، لذلك فهو قد يؤخر الإجابة اختبارًا لنا، فإن تركنا الباب، وأوقفنا التضرع والدعاء كان ذلك علامة وبيَّنة على عدم صدقنا في أننا بحاجة ماسة لإجابة ما نطلبه من الله، وأن الأمر لا يعدو أن يكون ردة فعل لحالٍ طارئة عشنا معها، وتأثرنا بها تأثرًا لحظيًا، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يُستجب لي» (?).
ولنعلم جميعًا بأننا لو وصلنا لحالة الاضطرار والحرقة عند الدعاء مرات ومرات، فإن الباب - يقينًا - سيُفتح، والشيطان سيخنس، وشمس القرآن ستشرق في قلوبنا بنور ربها.
ومن أهم أوقات الإلحاح على الله ودعائه دعاء المضطر، هو ذلك الوقت الذي يسبق قراءة القرآن، فالإلحاح الحارّ في هذا الوقت من شأنه أن يهيئ القلب لاستقبال القرآن استقبالاً صحيحًا: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ - فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 13، 14].
ومنها كذلك تلك الأوقات التي تستغلق فيها أبواب فهم الآيات علينا.