وأجيب عن هذا بأن الطعام لا غرض صحيح في النظر في من يملك عنه الطعام، ومن القصود الصحيحة مراعاة عدد من المساكين، ولا ينكر أحد أنه يمكن القصد إلى اعتبار العدد، وأن ذلك بخلاف اعتبار من يملك عنه الطعام، إذا تساوت جهة الملك.
وأخذ أبو المعالي في الرد عليه من جهة أخرى أورد فيها نكتا نحوية، وذلك أنه قد علم أن الفعل المتعدي إلى مفعولين، يختلف حال المفعولين، فتارة لا يجوز الاقتصار على أحدهما، وذلك إن كانا اسمين يصح أن يكون أحدهما مبتدأ، والآخر خبرا عنه، لأن الاقتصار على المبتدأ دون خبره لا يصح، وكذلك الاقتصار على أحدهما خبره دونه، ألا تراك تقول: زيد عالم، فتأتي باسمين أحدهما مبتدأ، وهو قولك: زيد، والآخر خبر عنه، وهو قولك: عالم. ولو اقتصرت على إحدى اللفظتين، فقلت: زيد: أو قلت: عالم لم يكن كلاما مفيدا، فإذا تعدى الفعل إلى هذا النوع من الأسماء لم يصح الاقتصار على أحدهما دون الآخر، ولابد من ذكرهما جميعا، حتى إذا كان المفعولان بخلاف ذلك، فيجوز الاقتصار على أحدهما، إذ لا ارتباط بين الاسمين، ولا يكون أحدهما مبتدأ والآخر خبره، ألا تراك لا تقول: زيد درهم، فلما لم يكن بينهما ارتباط صح حذف أحدهما إذا علقتهما بفعل، فتقول: أعطيت درهما ولا تذكر من أعطيته، فلهذا عمل الفعل في هذا في هذا النوع مقدما ومؤخرا، لكونه مقصودا في الخطاب معتنى به، فنقول: أعطيت زيدا درهما، وتقول: زيد درهما أعطيته، ولا يحسن هذا في النوع الآخر، فلا تقول: زيدا عالما ظننته، وإنما تقول: زيد عالم ظننته، على وجه إلغاء الفعل، لأنك إذا قدمته أشعرت تقدمته بتأكيده فعمل، فإذا أخرت أشعر تأخيره باطراحه فلم يعمل، ولو وسطته لجاز لك الوجهان: الرفع والنصب، فتقول: زيدا ظننت عالما، فتعمل الفعل، وتقول: زيد ظننت عالم، فتلغي الفعل.
فاستفيد من هذه الجملة أن العرب تراعي في كلامها الأهم، وتعتبر المقصود، فقوله تعالى: (فإطعام ستين مسكينا) الإطعام هاهنا مصدر (ص 179) والمصدر يعمل عمل الفعل، فيتعدى إلى مفعولين، والتقدير فإطعام طعام ستين مسكينا، فطعام أحد المفعولين، ولكنه حذف لأن هذا الفعل مما يصح حذف أحد مفعوليه. فاعتبر أبو حنيفة المفعول المحذوف وجعله المقصود في الخطاب، حتى علق الحكم به، فقال: لو كانت التلاوة: فإطعام طعام ستين مسكينا، لكان إذا أخرج قدر طعام ستين مسكينا أجزأه، فإذا لم تكن التلاوة هكذا، ولكن المحذوف مقدر وجب تعليق الحكم بتقديره، فرآه أبو المعالي غالطا خارجا عن قانون اللسان، إذ جعل المحذوف هو المراد المعلق الحكم به، والمذكور المنصوص كالملغي.
وقد أخبرنا نحن في أول المسألة بعذره عن ذلك، هذا أيضا وقد يزاحم أبا المعالي