وذهب أبو حنيفة إلى إسقاط مراعاة العدد، ورأى أن المقصود في الشرع سد الخلة بهذا المقدار، فإن أطعم طع أم ستين مسكينا لمسكين واحد لأجزأه، لأنه حصل في ذلك ستين خلة.

ونقل أبو المعالي هذا المذهب عن أبي (ص 178) حنيفة نقلا مطلقا يغتر به قارئ كتابه، ويظن أن مذهب الرجل جواز إعطاء هذه الكفارة لمسكين واحد في يوم واحد، والرجل لم يقل ذلك، ولكنه اشترط في تكرير ذلك على مسكين واحد تكرر الأيام، فرأى أنه إذا أعطى مسكينا صاعا أو نصف صاغ في يومه، وأمهل حتى صار بالغداة أعطى ذلك المسكين بعينه صاعا أو نصف صاع في يومه، وأمهل حتى صار بالغداة أعطى ذلك المسكين بعينه صاعا أو نصف صاع، ثم يمهل إلى الثالث فيعطيه كذلك حتى يستوفي ستين يوما، فيكون كالمطعم ستين مسكينا، هكذا مذهب الرجل لا ما أطلقه أبو المعالي في حكايته عنه.

وبهذا التقييد الذي حكيناه عنه يوجد إلى الاعتراض عنه سبيل، ولا تبلغ المسألة إلى إفراط أبي المعالي في تأنيبه، قوله: من عذيرنا فيه، إذا عطل النص بتأويل فاسد، لأن الرجل إنما تخيل أن الله سبحانه أمر بإعطام ستين مسكينا، ولم يعين مسكينا من مسكين، ولاخلاف بين العلماء أن المساكين غير معينين، فإذا لم يعينوا وأطعم هذا مسكينا، ثم كرر إطعامه بالغداة، وهو بالغداة مسكين، فكأنه أطعم مسكينا، لكونه هذا المسكين يصير كل يوم من جملة المساكين الذين لا يعينوا.

وإذا انتهى التأويل بهذا الرجل إلى هذا التقدير، فلا وجه للإفراط في تأنيبه وإضافته إلى تعطيل النص، لأنه إنما قدر أنه مستعمل للنص بهذا التكرار، وأنه غير مخل بالعدد المنصوص عليه، لكونه المساكين غير معينين، فإنما تحكام إلى مقتضى اللسان، وهل تسمى العرب هذا الإنسان المكرر على مسكين واحد ستين يوما مطعما لستين مسكينا أم لا؟ فالرجل على هذا التقدير غير مسقط للنص، وإنما ظن أن النص مشتمل عليه، وتخيل أن الغرض سد الخلة بهذا المقدار، فلا فرق بين أن يسد خلة مسكين واحد ستين يوما، أو يسد خلة ستين مسكينا في يوم واحد.

وقد أفسد عليه هذا بأن اتباع هذا الغرض الذي تخيل يجوز أن يكون على المسكين الواحد الإطعام إذا سرق ما أعطيه أولا، عاد بسرقته منه محتاجا لسد جوعته، وكان يجب على هذا إذا بقى عند هذا المسكين ما أعطيه من الطعام في يوم إلى غده ألا يكرر عليه، وهو لم يلتزم هذا الذي اقتضاه طرد اعتلاله، وقد احتج له بجواز تكرير الطعام بأن يشتري من المسكين، ثم يعطي لآخر، ولم يمنع ذلك من الإجزاء، فكذلك تكرير الإعطاء لمسكين واحد بتكرير الأيام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015