والعجيب أنه قد مات الكثير من الصحابة - بل من العشرة المبشرين بالجنة - دون أن يتموا حفظ القرآن.
أخرج ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سيرين قال: قُتِل عمر ولم يجمع القرآن (?).
ويقول الحسن البصري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وما استكمل حفظ القرآن من أصحابه رضوان الله تعالى عليهم إلا النفر القليل، استعظامًا له، ومتابعة لأنفسهم بحفظ تأويله والعمل بمحكمه (?).
وليس معنى هذا هو إهمال الحفظ، بل معناه الاجتهاد في العمل بما تدل عليه الآيات المحفوظة، وعدم الاستعجال في الحفظ حتى لا يتم إهمال الفهم والعمل.
رابعًا: الحديث يؤكد على أهمية التأثر بقراءة القرآن، فدرجات الجنة مرتبطة بالإيمان، ولأن كل آية في القرآن تحمل نورًا يزيد الإيمان في القلب حين يدخله لذلك كلما تأثر القارئ بآية وحصَّل ما فيها من إيمان ارتقى في الجنة درجة، وهذا هو أهم ما يرمي إليه الحديث، فيقال له يوم القيامة اقرأ كما كنت تقرأ في الدنيا بترتيل وتفهم وتأثر, فيزداد إيمانك, وترتفع به في الجنة بحسب ما حصلت من إيمان في الدنيا.
ولو قرأ المرء القرآن سواء كان عن ظهر قلب أو من المصحف دون تأثر وكان همه نهاية السورة أو الورد، ومن ثمّ لم يزدد بقراءته إيمانًا فهيهات أن يكون داخلاً في دائرة هذا الحديث.
من المخاطب؟:
وخلاصة القول أن المخاطب بهذا الحديث هو من يقرأ القرآن سواء عن ظهر قلب، أو من المصحف شريطة تفهمه وتأثر بآياته، وبهذا ندرك سر انشغال الصحابة بكثرة التلاوة بتفهم وترتيل، وندرك أيضًا سر حثه ومتابعته صلى الله عليه وسلم للصحابة في قراءة القرآن، أكثر من متابعته لحفظهم، ويكفيك أن الله عز وجل طالب نبيه في أكثر من موضع بأن يتلو القرآن {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل:92،91] وقوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4].
وليس ذلك فحسب بل نجد القرآن في مواضع أخرى يحدد مهمات الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تبدأ بتلاوة الآيات على من حوله {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2].
فإذا ما انتقلنا إلى أحاديثه صلى الله عليه وسلم نجده يستثير الهمم لكثرة قراءة القرآن تأمل قوله «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه ... » (?).
وقوله: «اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلو فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به» (?).
هذه الأحاديث وغيرها، وتعامل الصحابة مع القرآن على حقيقته ككتاب هداية، وتغيير، ومنبع للإيمان يرفع صاحبه عند الله كلما تزود منه ... هذا كله جعلهم يتسابقون لقراءته أكثر من حفظه، لأن الحفظ يتطلب العمل بكل ما تحمله الآيات، وهذا يحتاج إلى جهد ضخم، ويحتاج كذلك إلى قوة إيمانية متدفقة باستمرار تدفعهم إلى هذا العمل، وهذا هو المقصد من قول ابن عمر وجندب ابن عبد الله أنهم قد تعلموا الإيمان قبل القرآن ... فتعلم الإيمان إنما يكون بكثرة التلاوة، وتعلم القرآن يكون بحفظ آياته وتعلم ما فيها من علم، والقيام بما تدل عليه من عمل.
وعندما تعلموا الإيمان بكثرة التلاوة الصحيحة ساعدهم ذلك على تطبيق ما تدل عليه الآيات التي يحفظونها، فزادهم هذا التطبيق إيمانًا ..