أولاً: حفظ ألفاظ القرآن لا يدل على ما في القلب من إيمان، والدليل على ذلك أن هناك الآلاف من حفاظ القرآن، ممن حفظوه إجباريًا في المدارس أو الجامعات أو الكتاتيب، تجد أن سلوكهم يبتعد كثيرًا عما يرضي الله ... فهل هؤلاء الذين يجهلون على الناس، ويرتكبون ما يغضب الله، ويتركون بعض أوامره .. هل سيقال للواحد منهم اقرأ وارق ورتل ... ؟!!

إن هذا الفهم يتنافى مع أصول التفاضل بين الناس التي أخبرنا الله عنها أنها مرتبطة بالإيمان والتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].

ثانيًا: الأحاديث الواردة في فضل حفظ القرآن - كله أو بعضه - مرتبطة بالعمل به، وفي المقابل نجد الوعيد الشديد لمن يحمل القرآن ولا يعمل به.

روى البخاري من حديث سمرة بن جندب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيها: « .. فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة، يشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه، قلت: من هذا؟ قالا: انطلق ... »

وفي آخر الحديث: «والذي رأيته يُشدخ في رأسه فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل فيه بالنهار، يُفعل به إلى يوم القيامة ... » (?).

إن الفضل العظيم لحفظ القرآن مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعمل به، فإن لم يُعمل به كان وبالاً على صاحبه، كيف لا وهو يتلو على الناس آيات لا يعمل بها، فيصير ما يقوله في واد، وما يفعله في واد آخر، فيصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «أكثر منافقي أمتي قراؤها» (?).

من هنا ندرك تأنِّي الصحابة رضوان الله عليهم في حفظ القرآن لدرجة أن عمر بن الخطاب ظل اثنتي عشرة سنة يحفظ سورة البقرة، أما ابنه عبد الله فقد حفظها في ثماني سنوات.

وهذا أبو عبد الرحمن السلمي - وهو من كبار التابعين - وكان ممن تتلمذ على يد كبار الصحابة كعبد الله بن مسعود يقول: إنما أخذنا القرآن من قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخرى حتى يعلموا ما فيهن من العمل، فتعلمنا العلم والعمل جميعًا، وإنه سيرث القرآن من بعدنا قوم يشربونه شرب الماء، لا يجاوز هذا وأشار إلى حنكه (?).

وجمع أبو موسى الأشعري الذين قرأوا القرآن وهم قريب من ثلاثمائة، فعظّم القرآن وقال:

إن هذا القرآن كائن لكم ذخرًا وكائن عليكم وزرا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زجّ به في قفاه فقذفه في النار. (?)

ثالثًا: لو كان هذا الأمر الوارد في الحديث مرتبطًا بحفظ الألفاظ ... أتظن أن الصحابة سيفوِّتون هذه الفرصة لعلو المنزلة، وهم الذين عايشوا القرآن، وصاحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ فهم أكثر الناس فهمًا لمراد أقواله صلى الله عليه وسلم.

لو تأملنا سيرتهم سنجد أمرًا عجيبًا ... سنجد أنهم كانوا يتسابقون على كثرة قراءة القرآن أكثر من تسابقهم في حفظه، بل إن الحفاظ بينهم كانوا قلة.

يقول عبد الله بن عمر: كنا صدر هذه الأمة، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معه إلا السورة من القرآن أو شبه ذلك، وكان القرآن ثقيلاً عليهم، ورزقوا العمل به، وإن آخر هذه الأمة يخفف عليهم حفظ القرآن حتى يقرأه الصبي والأعجمي فلا يعملون به (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015