قال ابن قتيبة: كنت حضرت يوما مجلس يحيى بن أكثم بمكة، فرأيته يذهب إلى أنّ البيضة فى هذا الحديث بيضة الحديد التى تغفر الرأس فى الحرب، وأن الحبل من حبال السفن، قال: وكلّ واحد من هذين يبلغ ثمنه دنانير كثيرة؛ قال: ورأيته يعجب بهذا التأويل، ويبدى فيه ويعيد، ويرى أنه قطع به حجة الخصم.
قال ابن قتيبة. وهذا إنما يجوز على من لا معرفة له باللغة ومخارج الكلام، وليس هذا موضع تكثير لما يأخذه السارق فيصرفه إلى بيضة تساوى دنانير؛ وحبل لا يقدر السارق على حمله؛ ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح الله فلانا! عرّض نفسه للضرر فى عقد جوهر، وتعرّض لعقوبة الغلول فى جراب مسك؛ وإنما العادة فى مثل هذا أن يقال: لعنه الله، تعرّض للقطع فى حبل رثّ، أو إداوة خلق، أو كبّة شعر؛ وكلّ ما كان من ذلك أحقر كان أبلغ.
قال: والوجه فى الحديث أن الله تعالى لما أنزل على رسوله صلى الله عليه وآله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا؛ قال رسول الله صلى عليه وآله: «لعن الله السارق؛ يسرق البيضة/ فتقطع يده»، على ظاهر ما أنزل عليه (?) فى ذلك الوقت، ثمّ أعلمه الله تعالى بعد أن القطع لا يكون إلّا فى ربع دينار فما فوقه، ولم يكن عليه السلام يعلم من حكم الله تعالى إلا ما علّمه الله تعالى، وما كان الله يعرّفه ذلك جملة جملة، بل بيّن (?) شيئا بعد شيء.
قال سيدنا أدام الله علوّه: ووجدت أبا بكر الأنبارىّ يقول: ليس الّذي طعن به ابن قتيبة (?) على تأويل الخبر بشيء؛ قال: لأن البيضة من السلاح ليست علما فى كثرة الثمن ونهاية علوّ القيمة؛ فتجرى مجرى العقد من الجوهر، والجراب من المسك؛ اللّذين هما ربّما ساويا الألوف من الدنانير، والبيضة من الحديد ربّما اشتريت بأقلّ مما يجب فيه القطع، وإنما أراد عليه السلام أنه يكتسب قطع يده بما لا غنى له به، لأن البيضة من السلاح لا يستغنى بها أحد، والجوهر والمسك فى اليسير منهما غنى.