فأما الشيخ المفيد فقد كان رأسا من رءوس الشيعة؛ وعلما من أعلامهم؛ لا يدرك شأوه فيهم؛ وإليه انتهت رئاسة الإمامية فى عصره، وفى كتبه حفظت أقوالهم وآراؤهم وشروحهم وتأويلاتهم؛ وعنه تلقى السيد المرتضى الفقه والأصول والتفسير وعلم الكلام؛ ثم استقل بالرأى فيما بعد؛ ووضع فى ذلك الكثير من الكتب والرسائل والمقالات.
وأما المرزبانىّ فقد كان إماما من أئمة الأدب؛ وشيخا من شيوخ المعتزلة، وعلما من أعلام الرواية؛ وكانت داره مقصد العلماء والمتأدبين؛ مهيّأة بالكتب والورق والمداد؛ معدّة للطعام والراحة والنوم؛ فكان يأخذ عمّن يزوره من العلماء؛ ويقرأ لمن يجلس إليه من الطلاب، وفيما بين ذلك يؤلف الكتب ويصنفها؛ ومعظم ما رواه السيد المرتضى فى كتاب الغرر من الشعر واللغة والأخبار ممّا تلقاه عليه، ورواه عنه.
ولما علت به السنّ، وخلع عن منكبه رداء الشباب عكف فى منزله مخلدا إلى القراءة والدرس؛ واستنزف أيامه فى التحصيل والتأليف، مؤثرا مجالسة العلماء والمستفيدين على مخالطة الرؤساء وذوى السلطان؛ بل إنه زهد فيما ورّث أبوه من نقابة الطالبيين، والنظر فى المظالم، وآثر بها أخاه الرضىّ- وكان أصغر منه- ليرضى ما كانت تنزع إليه همة أخيه من الرغبة فى سنىّ المطالب وبلوغ الأقدار؛ ويقضى حاجة نفسه من الانقطاع إلى العلم، والخلوة إلى القراءة والدرس؛ ولم يتولّ شيئا من هذه المناصب إلا بعد وفاة أخيه.
وأعانه على ما يبغى ما تهيأ له من مكتبة عريضة واسعة؛ تحوى ما عرف من الكتب فى حياته؛ ذكر الثعالبى أنها قوّمت بعد وفاته بثلاثين ألف دينار، وقدرت بثمانين ألف مجلد، بعد أن أهدى منها ما أهدى إلى الرؤساء والوزراء.
وكان السيد المرتضى فى نعمة سابغة، وخير كثير، وثروة قلّ أن تتهيأ لمثله من العلماء؛ روى أنه كانت له ثمانون قرية بين بغداد وكربلاء، يشقها نهر ينتهى إلى الفرات؛ وكانت السفن تسير فيه غادية رائحة، تحمل السّفر والزوار؛ وخاصة فى موسم الحجيج؛ وكان لهم فيما يساقط