فسار أبو عبيدة بعد فراغه من اليرموك إلى حمص ففتحها، ثم بعث خالد بن الوليد على مقدّمته إلى قنّسرين. فلما نزل بالحاضر زحف لهم الروم، وثار أهل الحاضر بخالد بن الوليد، وعليهم ميناس وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل ت فالتقوا بالحاضر، فقتل ميناس ومن معه مقتلةً لم يقتلوا مثلها. ومات الروم على دمه حتى لم يبق منهم أحدُ.
وأمّا أهل الحاضر فكانوا من تنوخ، منذ أول ما تنخوا بالشام نزلوه، وهم في بيوت الشعر، ثم ابتنوا المنازل، فأرسلوا إلى خالد بن الوليد: إنّهم عربٌ وإنهم لم يكن من رأيهم حربه. فقتل منهم وترك الباقين. فدعاهم أبو عبيدة بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم بعضهم، وبقي البعض على النّصرانية، فصالحهم على الجزية. وكان أكثر من أقام على النصرانية بنو سليح بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة. ويقال: إنّ جماعة من أهل ذلك الحاضر أسلموا في خلافة المهدّي، فكتب على أيديهم بالخضرة قنسرين.
ثم إن خالداً سار فنزل على قنّسرين، فقاتله أهل قنسرين، ثم لجؤوا إلى حصنهم، فتحصّنوا منه، فقال: إنّكم لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم، أو لأنزلكم إلينا. ثم نطروا في أمرهم، وذكروا ما لقي أهل حمص وطلبوا منه الصلح، فصالحوه على صلح حمص، فأبى إلا على خراب المدينة فأخربها. وكان صلح حمص على دينار وطعامٍ على كلّ جريبٍ أيسروا أو أعسروا. وغلب المسلمون على جميع أراضيها وقراها وذلك في سنة 16 من الهجرة.
ثم إنّ خالداً سار إلى حلب، فتحصّن منه أهل حلب، وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليهم فطلبوا من المسلمين الصلح والأمان. فقبل منهم أبو عبيدة وصالحهم وكتب لهم أماناً، ودخل المسلمون حلب من باب أنطاكية، وحفّوا حولهم بالتّراس داخل الباب، فبني على ذلك المكان مسجدٌ وهو المسجد المعروف بالغضائري داخل باب أنطاكية ويعرف الآن بمسجد شعيبٍ.
ولما توجّه أبو عبيدة إلى حلب بلغه أنّ أهل قنّسرين قد نقضوا، فردّ إليهم السمط ابن الأسود الكنديّ فحصرهم ثم فتحها، فوجد فيها بقراً وغنماً، فقسم بعضها في من حضر، وجعل الباقي في الغنم.
وكان حاضر قنّسرين قديماً نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بينهم حتى نزل الجبلين من نزل منهم. فلما ورد أبو عبيدة عليهم أسلم بعضهم، وصولح كثيرٌ منهم على الجزية، ثم أسلموا بعد ذلك بيسيرٍ، إلا من شذّ منهم.
وكان بقرب مدينة حلب حاضر حلب يجمع أصنافاً من العرب من تنوخ وغيرهم، فصالحهم أبو عبيدة على الجزية. ثم إنّهم أسلموا بعد ذلك، وجرت بينهم وبين أهل حلب حربٌ أجلاهم فيها أهل حلب، فانتقلوا إلى قنّسرين وكانت قنّسرين وحلب إذ ذاك مضافتين إلى حمص. فأفردهما يزيد بن معاوية في أيامه. وقيل: أفردهما معاوية أبوه.
ولما بلغ عمر بن الخطاب ما فعل خالدٌ في فتح قنّسرين وحلب، قال: أمّر خالدٌ نفسه! يرحم الله أبا بكر هو كان أمير المسلمين من جهة أبي بكر على الشام. فلما ولي عمر عزله، وولى أبا عبيدة. ثم ولاّه عمر على قنّسرين، فأدرب خالدٌ وعياض بن غنمٍ أول مدربة كانت في الإسلام، سنة 16 هـ. ورجع خالدٌ فأتته الإمارة من عمر على قنّسرين، فأقام خالدٌ أميراً من تحت يد أبي عبيدة عليها، إلى أن أغزى هرقل أهل مصر في البحر وخرج على أبي عبيدة بحمص بعد رجوعه من فتح حلب، فاستمدّ أبو عبيدة خالداً فأمدّه ممّن معه، ولم يخلف أحداً. فكفر أهل قنّسرين بعده، وبايعوا هرقل، وكان أكفر من هناك تنوخ. واشتور المسلمون فأجمعوا على الخندقة والكتاب إلى عمر بذلك. وأشار خالدٌ بالمناجزة فخالفوه وخندقوا، وكتبوا إلى عمر واستصرخوه. وجاء الروم بمددهم، فنزلوا على المسلمين وحصروهم. وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفاً سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم. فنالوا من المسلمين كلّ منال. وكتب عمر إلى سعد ابن أبي وقاص يخبره بذلك، ويأمره أن يبثّ المسلمين في الجزيرة ليشغلهم عن أهل حمص وأمدّه عمر بالقعقاع بن عمرو فتوغّلوا في الجزيرة، فبلغ الروم فتقوّضوا عن حمص إلى مدائنهم.