وملك بعده بطليموس محب أمه وهو ابن أشمونيث، كان ينزل حلب وعمّر على صخرتها قلعة وحصّنها، فخرج عليه في آخر أيامه أنطياخوس ملك الروم واستنجد عليه، فلم يكن محب أمّه معه طاقةٌ، فخرج عنها مع أمّه فأسرهما أنطياخوس وعذّبهما، واستصفى أموالهما، وشرع في هدم ما جدّدت أشمونيث من بناء حلب. فقيل له: إنّ الذي يفعله ليس من عادة الملوك، فكفّ عن هدمها وتوعّد من يسكن بحلب، فصار الناس إلى غيرها. وعاد إلى أنطاكية، فاستحدث بها أبنيةً لنفسه، فلذلك يزعم قومٌ أنّ أنطاكية من بنائه، وليس كذلك. وإنمّا له فيها مثل ما لبطليموس الأريب من التّتميم، ويقال: إنّ أشمونيث وهي حلب تجاوزت عمارتها ما رسمه الأريب، حتى صارت العمارة إلى جميع الجوانب. وقيل: إنّ أشمونيث نصبت حوليها مئة ألف نصبٍة من الزيتون من الأشجار الجبلية الشامية، ولم يبق بحلب موضعٌ ينسب إلى أشمونيث غير العين المعروفة بأشمونيث. وماتت أشمونيث وولدها في أسر أنطياخوس تحت العقاب. وقيل: هو الذي بنى قنّسرين، وأجرى الماء إليها في قناةٍ من عين المباركة، وقيل: بناها غيره. وعرف أنطياخوس ببطليموس الرابع، وقيل: إنّ أشمونيث حال محاربتها أنطياخوس أتتها نجدةٌ من مصر فهزمته، فصار إلى الشرق فمات.
ثم ملك حلب بعد أشمونيث بطليموس أبيفانس وهو قائد العسكر. وفي زمانه اشترت اليهود منه موضع القلعة المعروفة اليوم بقلعة الشريف فتحصنّوا بها، وكانوا يعينون الملك في القتال، ويحملون له الأموال.
ثم ملك بعده بطليموس فيلومطر وهلك أنطياخوس في أيامه.
ثم ملك بعده جماعةٌ من ملوك اليونان، إلى أن صار الملك إلى القياصرة ملوك الروم، فملك منهم عدة ملوك إلى أن ملك أوغسطس قيصر بن ميويوخس فاستولى على الدنيا وقهر الملوك وقصد مصر ليستولي عليها. فلما بلغ حلب وكان أمره قد عظم قال: إنّ بطليموس الأريب لم يرض أن ينزل منزلاً لغيره، فسار إلى موضع مدينة قنّسرين فأمر القواد أن يأمروا من قبلهم بتحويط منازلهم، فبنى قنسرين وسماها مدينة العسكر، ونقل الأسواق من حلب إليها، ولم يبق بحلب إلا من لا حاجة للعسكر به، وكانت هذه أعظم ما فعل أنطياخوس وقيل: إنه أمر أن ينفق على القناة إليها، فأنفق نائبه مالاً على القناة، وأجرى الماء فيها من عين المباركة، وساقها بالقناطر إلى قنّسرين، وبنى بها ثلاث بركٍ على شكل المثلّث، وفائضها ينحدر إلى الأرضين التي تحتها.
وصار الملك بعده إلى جماعة من القياصرة ملوك الروم. وصارت أنطاكية دار الملك، وبها مقام ملوك الروم، وكانوا يدعونها مدنية الله ومدينة الملك وأمّ المدن، لأنها أول بلد ظهر فيه دين النّصرانية. ومعظم سور مدينة حلب من بناء الروم.
وملك منهم ملكٌ يقال له: فوقاس، فسفك الدماء، وتتبع حاشية كسرى فقتلهم فتوجه كسرى أو شروان إلى الشام، فافتتح حلب وأنطاكية ومنبج. ورمّ ما استهدم من سور حلب بالقرميد الكبار، وهو ظاهرٌ في سور المدينة الكبير فيما بين بابي اليهود والجنان.
وجدّد كسرى بناء منبج، وسمّاها منبه، وهو بالفارسية أنا أجود فعرّبت فقيل: منبج. واستحسن أنطاكية، فلما عاد إلى العراق بنى مدنيةً على صورتها، وسمّاها زبد حسره، وهي التي تسمّى رومية، وأدخل إليها سبي أنطاكية، فقيل: إنهم لم ينكروا من منازلهم شيئاً، فانطلقوا إليها إلا رجلاً إسكافاً كان على باب داره بأنطاكية شجرة فرصادٍ فلم يرها على بابه ذلك. فتحيّر ساعةً، ثم دخل الدار فوجدها مثل داره.
ولما عاد كسرى من الشام قام هرقل بن قوق بن مروقس وجمع بطارقة الروم، وأولي المراتب؛ وذكر لهم سوء آثار فوقاس ملك الروم، وغلبة الفرس على ملكهم بسوء تدبيره، وإقدامه على الدماء، ودعاهم إلى قتله فقتلوه. ووقع اختيارهم على هرقل فملكوه. في أول سنةٍ من ملكه كانت هجرة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة واستولى على حلب، وعلى جميع البلاد التي استولى عليها أنو شروان، وكان جلّ مقامه بأنطاكية.
فلما افتتح المسلمون أجناد الشام، وكانت واقعة اليرموك، وقتل المسلمون فيها معظم الروم، وأمير المسلمين عليهم أبو عبيدة بن الجراح، انتقل هرقل من أنطاكية، وعبر نهر الفرات إلى الرّها، وجعل بقنّسرين ميناس الملك، وكان أكبر ملوك الروم بعد هرقل.