أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] , والذي يدلك على أن هذه الرخصة لا تستمر مطلقاً قوله تعالى عن موقف إبراهيم عليه السلام من أبيه كما تقدم , ثم إن هذه الرخصة مربوطة بسبب من الأسباب وهو التخفيف الذي يتبع التشريع وكما تقرر في القواعد الفقهية أن ما لا يتحرز عنه فهو عفو، ولا ينافي هذا زوال الرخصة بزوال سببها.
الردود:
الإشكال الأول: بالنسبة لمن قال: أن الاستدلال بمفهوم قوله تعالىِ}:إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {على جواز الموالاة , أن ثمّة منطوق يُعارض هذا المفهوم في آيات عديدة، ومنها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). وكذلك قوله تعالى} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. ففي هذه الآية نهى الله عز وجل عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، وهذا عام في كل يهودي ونصراني ليس له مخصص، وغير اليهود والنصارى أولى بذلك، سواء قاتلنا أولم يقاتلنا فلا تجوز موالاتهم، ومما يدل على هذا العموم أنه لمّا عين أبو موسى الأشعري رضي الله عنه- كاتباً نصرانياً أنكر عليه عمر رضي الله عنه، وتلا هذه الآية السابقة. فالجواب على ذلك:
أن قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هو دليل على قطع الولاية الشاملة لجميع مفردات الولاية من تعظيم وإرث وخُلَة ومتابعة بين المؤمنين والكافرين ولو كانوا أقرباء , وقيل إنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب نهوا أن يوالوا الآباء والإخوة فيكونون لهم تبعاً في سكن البلاد والكفر ويدل على ذلك سبب النزول وهو الأظهر ومما يدل أيضاً على أن المراد ليس مُطلق الولاية هو قوله تعالى بعد الآية السابقة} قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {فعدم ذكر الأبناء والأزواج في آية النهي عن الولاية ; لأن من شأن الإنسان أن يتابع في السكن ويتولى في الحرب من فوقه كالأب ومن هو مثله كالأخ دون من هو دونه كابنه وزوجه.
ومما يُستدل به أيضاً لصالح هذا المذهب هو قوله تعالى في الوالدين المشركين: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ثم قال أيضاً في موضع آخر عن الوالدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) , فكأن الموالاة في الآية السابقة هي المتابعة والموافقة والمناصرة على الباطل وليست مجرد المحبة بدليل قوله تعالى في الآية