ومن هذا العرض يتبين للناظر أن الإمام الجليل الشافعي قد استعمل "اختلاف الحديث" في معناه الدقيق الذي ذكره علماء علوم الحديث وأصوله في كتبهم فيما بعد.

وأن الإمام أبا محمد بن قتيبة قد ذكر اختلاف الحديث, وأراد ما هو أعم منه وهو المشكل؛ لكونه أعم منه, فهو من إرادة الخاص وإرادة العام, وأن الإمام أحمد بن محمد الطحاوي قد استعمل المشكل, وأراد به ما يشمل مختلف الحديث, وهو ما كان بسبب التعارض بين حديثين أو أكثر، وما كان لسبب غير ذلك, ويتبين ذلك من قوله في مقدمة كتابه "مشكل الآثار": "فإني نظرت في الآثار المروية عنه -صلى الله عليه وسلم- بالأسانيد المقبولة التي نقلها ذوو التثبيت فيها، والأمانة عليها، وحسن الأداء لها، فوجدت فيها أشياء مما سقطت معرفتها والعلم بما فيها عن أكثر الناس، فمال قلبي إلى تأملها، وتبيان ما قدرت عليه من مشكلها، ومن استخراج الأحكام التي فيها، ومن نفي الإحالات عنها"1.

وإن الإمام محمد بن الحسن بن فورك إنما أراد بالمشكل من الحديث نوعا آخر خلاف "مختلف الحديث", وأنه يلتقي مع الإمام أبي محمد بن قتيبة في بعض ما ذكره في كتابه تأويل "مختلف الحديث", وهي الأحاديث التي يوهم ظاهرها التشبيه والتجسيم وغيرها مما وضعته الزنادقة بقصد الطعن في "أهل الحديث", وأنهم يروون الأحاديث التي تخالف العقل والنقل.

وهذا الذي وصلت إليه في بيان، "مختلف الحديث" و"مشكل الحديث" والفرق بينهما, قد أكثرت فيه القراءة والبحث والنظر، حتى وصلت فيه إلى هذه النتائج البالغة الغاية في التحرير والموازنة والتحقيق فلله الحمد والمنة، فعلى طلاب الحديث أن يعوه بقلوبهم، ويشدوا عليه بأيديهم ويعضوا عليه بنواجذهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015