والجامعون له بغائبة عنهم أصول هذا الفن وقواعده, بل كانوا يعرفونها حق المعرفة فكان وجودها في الأذهان, وإن لم توجد في الأعيان وليس أدل على هذا مما نقل إلينا من التثبت البالغ والتحوط الشديد في قبول الرواية والعمل بها, والتحرج من الإكثار من الرواية خشية الغلط أو النسيان, أو التزيد والوضع, وقد وضع أساس هذا التثبت الخلفاء الراشدون المهديون ومن جاء بعدهم من أئمة العلم والحديث.
"بعد عصر التدوين":
ولما دونت الأحاديث تدوينا عاما ودونت كتب أخرى في علوم أخرى وجدنا الكثير من قواعد هذا العلم وأصوله مفرقة في أثناء كتبهم المؤلفة في متون الأحاديث، أو المؤلفة في الفقه وأصوله, فمن ذلك ما نجده في أثناء مباحث كتابي "الرسالة" و"الأم" للإمام الشافعي المتوفى سنة 204هـ وما نقله تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241هـ في أسئلتهم له ومحاورتهم معه, وما كتبه الإمام مسلم بن الحجاج المتوفى سنة 261هـ في مقدمة صحيحه, وهي مقدمة صحيحه, وهي مقدمة قيمة وتعتبر من المحاولات الجدية في تدوين هذا العلم, ولولا أنها مقدمة للصحيح لاعتبرتها أول ما دون في أصول الحديث والرواية, بالمعنى الفني الدقيق, وما ذكره الإمام أبو داود السجستاني المتوفى سنة 275هـ في رسالته إلى أهل مكة في بيان طريقته في كتابه "السنن" المشهور, وما ذكره الإمام أبو عيسى الترمذي المتوفى سنة 276هـ في ثنايا كتابه الجامع من تصحيح للأحاديث وتحسين وتضعيف ونقد للرواة وتعديل وتجريح, وما أثبته في كتاب "العلل" الذي هو في آخر جامعه. وكتابه "العلل" الذي ألفه على سبيل الاستقلال.
وما ذكره الإمام البخاري في تواريخه الثلاثة, وما ذكره الأئمة المتقدمون في كتبهم التي وضعت في الجرح والتعديل وتاريخ الرجال